الرجوع

إنسانيّة إيمانيّة

الأحد

م ٢٠١٧/٠٣/٠٥ |

هـ ١٤٣٨/٠٦/٠٧

"أنسنةُ الدين" التي أتبنّاها وأدعو إليها، هي نمطُ حضورٍ لـ"الإله الروحي الأخلاقي" في حياة الإنسان. وبكلمة أخرى، هي "تديُّنٌ إنساني روحاني أخلاقي"، لا يقطع الصلةَ بالله، ويجعل الدينَ ظاهرةً بشريةً خالصة، مثلما لا يتجاهل الطبيعةَ البشرية، ويتعاطى مع الإنسان وكأنه روحٌ مجرّد فقط؛ إنما يوظف كل المعطيات المتاحة للعلوم والمعارف والخبرات البشرية، في الفهم الصحيح لهذه الطبيعة. وهو كما يسعى لتأمين احتياجاتها الجسدية في سياق هذا الفهم، لا ينسى احتياجاتها العابرة للجسد، من: حاجة مُلحَّة إلى معنَنَة الحياة، وتنمية القدرة على التغلب على القلق الوجودي، وتزويد الإنسان بما يخفف عنه آلامَ الحياة ويشفيه من مواجعها، ويخلّصه من التشاؤم والعدمية في عالمه البشري، الذي تتكشَّف له فيه على الدوام مواقفُ تَشِي بالعبثية واللامعنى.

أنسنة الدين عندي تعني "إنسانية إيمانية، وإيمانية إنسانية"، وهي لا تتطابق و"الإنسانية غير الإيمانية"، التي يتحدث عنها بعضُ المفكرين في الغرب والشرق، والتي تتمحور الأنسنةُ فيها على مركزية الإنسان، وتُفضي إلى نسيان الله، وتأليه الإنسان.

  ضرورة اقتران الإنسانية بالإيمان، تعود إلى أن الكائن البشري لن يستغني عن الحياة الروحية. لذلك، كثيرًا ما يقود نسيانُ الله إلى ضياع الكائن البشري، وتَخبُّطه في روحانيات مستلَبة زائفة، لا تخلو من وثنيّات وخرافات غرائبيّة، وممارسات هي أقرب للسحر والشعوذة، كعبادة البشر وتأليههم، أو الانصياع لضروب من روحانيات عبثية، والشغف ببعض أنواع الارتياض العنيف، أو اعتزال الحياة والهروب من الأوطان إلى غابات وكهوف وزوايا نائية، والتسليم الأعمى لدجَّالين ومشعوذين، يزعمون أنهم مُلهِمون حاذقون في إيقاد جذوة الحياة الروحية.

أما ضرورة اقتران الإيمان بالإنسانية، فيعود إلى الحاجة إلى الخلاص من القراءة الخرافيّة للنصوص الدينية، والقراءة العنيفة لهذه النصوص. القراءة العنيفة تفتك بالإنسان، وتهدر كرامته، وتبدِّد إيمانه، والقراءة الخرافية لا تخلو من وثنية، وكل وثنية لا تهدر كرامة الإنسان، وتبدد المضمون الروحي الأخلاقي للدين فحسب، بل يحتجب معها اللهُ عن العالم، وتنتصب بديلاً عنه تعالى، أوثانٌ تَتعدد بِتعدد تلك الخرافات. وهذه الأوثان ليست إلاّ آلهة زائفة تستعبد الإنسان، بعد أن تشلّ عقله، وتمزّق روحه، وتبذر حقوقه، وتحجبه عن "الإله الرحماني الأخلاقي".

 مفهوم التدين في "الإنسانية الإيمانية"، غير التديُّن المُستلَبة فيه إنسانيةُ الإنسان. أما الإيمان في "الإنسانية الإيمانية"، فهو الإيمان الحرّ الذي يقترن دائمًا بالحرية، وليس بالاسترقاق والعبودية. في "الإنسانية الإيمانية" يكون إيماني حيث تكون حريتي، أي إن الصلةَ بالله هنا، صلة عضوية لا تتأسس على الرضوخ، والانسحاق، وإهدار الكرامة البشرية، بل تتأسس على الحريات، والحقوق البشرية.

الدفاع عن الله في "الإنسانية الإيمانية"، يبدأ بالدفاع عن كرامة الإنسان، وصيانة حقوقه، وحماية حرياته. إذ لا يمر الطريقُ إلى الله إلاّ عبر احترام الإنسان، ورعايته، وتكريمه.

 الإنسانية الإيمانية، يَتّحد فيها مسارُ الإيمان بمسار حماية كرامة الإنسان، واحترام حقوقه وحرياته، بل إن الايمانَ إنما يتحقق ويتكرّس فيها، بالغيرة والشفقة على الإنسان. إنها أنسنةٌ للإنسان بحمايته من لا إنسانية الإنسان، وتحرير الإنسان من تعصُّب، وعدوان، وعنف الإنسان.

الإنسانية الإيمانية يحيل معناها إلى أن "الله واحد، وأيضًا الإنسان واحد". لذلك، يَكتسب الإنسانُ حقوقَه الطبيعية من كونه إنسانًا لا غير. وعلى هذا الأساس يُبْنَى مفهومُ المواطَنة، التي ينبثق منها استحقاق كل مواطن لحقوقه المدنية والسياسية. في سياق هذا الفهم، تَكتسب المساواةُ قيمتَها من كونها مساواة لا غير، والحريةُ قيمتَها من كونها حرية لا غير، والمحبةُ قيمتَها من كونها محبة لا غير، والرحمةُ قيمتَها من كونها رحمة لا غير؛ ذلك أن المساواةَ، والحرية، والمحبة، والرحمة، قيمٌ كونية عابرة، للمعتقدات، والإثنيَّات، والثقافات، والهويّات، والزمان، والمكان، والتاريخ، والجغرافيا.

 وحين يستمد الكائن البشري حقوقَه من انتمائه إلى أيديولوجيا، وهوية، وثقافة خاصة، بدلاً من كونه إنسانًا، وقتئذ يتضخم ما هو لا إنساني، ليبدّد ما هو إنساني. فالأيديولوجيا، والهوية، والثقافة الخاصة، لا تعبأ بالضرورة بإنسانية الإنسان، إنما تعلي عليها الأيديولوجيا والهوية والحقوق الثقافية الخاصة، فتنقلب الهوية في مفهومها إلى لا إنسانية، تُسجَن فيها القيمُ الإنسانية الكونية.

من كل ذلك، أَخْلُص من كل ذلك إلى أني أفهم حريةَ الإنسان وكرامته وحقوقه، بِوصفها مَعانِيَ من معاني الله في الإنسانية الإيمانية، وهي تحيل إلى مسؤولية الإنسان حيال ذاته، وضرورة حمايتها من أي شكل من أشكال العبودية، وصيانة هذه الذات من الضياع في ظلمات الأوثان الأرضية المتنوعة، التي تُفضي إلى تغييب الله واحتجابه عن العالم.

الله يحضر حيث تحضر الذات البشرية؛ الذات تحضر حيث تحضر الحرية، والكرامة، والحقوق البشرية. الله يغيب حيث تغيب الذات البشرية؛ الذات تغيب حيث تغيب الحرية، والكرامة، والحقوق البشرية.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive