الرجوع

الأديان وروح الرَّحابة الإلهية

الإثنين

م ٢٠١٨/٠٧/٣٠ |

هـ ١٤٣٩/١١/١٨

عِشتُ الأسبوعَ الماضي تجربة جِدَّ معبِّرة، عن العلاقة بين الدين والإنسان والتعايش. كنتُ بمدينة الرَّباط برفقة صديق مسيحي، ذهبنا لنلتقي بأحد معلِّمي الطريقة الصوفيّة التِّيجانيّة. كان اللقاء مرتقَبًا في أحد المساجد التي خُصِّصت للصلاة، و للذِّكر الصُّوفيّ بعد ذلك.

حضَرْنا إلى المسجدَ بعد انتهاء الصلاة، في انتظار أن نلتقي بالشيخ الصُّوفي في الطابق العلوي. سألني الإمام هل كان مُرافقي مُسْلمًا، فأجبته أنه مسيحي. بدَت عليه بعض علامات الاستياء، وبعد تردُّد قصير أكَّد لي أنه لا يحقُّ له كمسيحيّ أن يَدخل مساجد المسلمين. أجبتُه بلطف كبير، أن الرسول محمد سمح لمسيحيِّي نجران بدخول مسجده. احتدَّ النقاش بعض الشيء، وأجابني بحَزْم أن ما فعله الرسول جرى نسْخُه بِنصٍّ قرآنيّ يمنع "المشركين" دخول المسجد الحرام، وكلِّ المساجد عمومًا، لأنهم "نَجَس". كِدْنا أن ندخل في نقاش آخر حول الفَرق بين المشركين وأهل الكِتاب، لولا دخول الشيخ الصُّوفيّ الذي دعانا إلى الصعود معه إلى الطابق العلوي، حيث سيُلقي درسه.

بدأ الشيخ درسه بالحديث بِقَلْب الإنسان الصوفي، حيث الحبُّ هو العلاقة بالمخلوقات كلِّها، بل إن المُريد ما إنْ يَحسُّ بِذَرَّة بُغضٍ واحدة تجاه أخٍ له في الإنسانية بسبب جنسه، أو لونه، أو عقيدته، حتى يَخرج من "صفاء" القلب الذي هو عماد التربية داخل الطريقة. سألته عن رأيه في حضور صديقي المسيحي داخل المسجد، فأجابني بضحكة هادئة أن المخلوقات كلَّها جديرة بالحب، فكيف بالإنسان الذي كرَّمه الله تعالى ونفخ فيه من روحه؟! بل إن السادة الصُّوفيَّة لا يُقرُّون بفكرة الكفر كما يَفهمها الفقهاء. ختم الشيخ حديثه بجملة في منتهى الفصاحة والعمق: "إننا نتوضَّأ بماء الحب"!

من الفقيه إلى الصوفي، الكثير من الأسئلة اختلجت في نفسي، حول قُدسيّة الإنسان أو دنَسِه بالنسبة إلى الأديان، وحول قدرة الأديان على أن تتقاسم نفس الفضاء. دفعني ذلك إلى أن أقوم ببعض القراءات، حول موقف المدارس الفقهيّة من دخول غير المسلمين مساجدَ المسلمين، أو إقامة شعائرهم فيها. هناك من يرى أن الإسلام لا يسمح بذلك، لأن {المساجِدَ لِلَّهِ فلا تَدْعُوا مع الله أَحَدًا} [البقرة: 187]، وقد يدعو المسيحيُّ داخل المسجد بِاسم الآب والابن والروح القُدس، في حين يُجِيزه بعضهم الآخر، لأن بعض نصارى نجران دخلوا المسجد النبوي وصلَّوْا فيه، بل وضربوا نواقيسهم. ورغم اعتراض الصحابة على ذلك، قال لهم الرسول: "دَعُوهُم"، فاستَقبَلُوا المَشرِقَ فصَلَّوْا صَلاتَهم.

منذ بضع سنوات، بدأنا نشهد بُروز فضاءات عبادة مشتركة بين الأديان. ففي أوروبّا بدأت تتكرَّس سياسة المساجد والكنائس المفتوحة، لتعميق المعرفة بالإسلام والمسيحية، وخَلْق شروط التعايش والتفاهم بين أتباع الديانتَيْن. التجسيد الأرقى لهذا التقارب المكاني، كان بواسطة الشابّ المَقْدسيّ المسيحيّ نضال جوزيف، وهو يحمل إنجيله بين كفَّيْه وسط آلاف المصلِّين يوم الجمعة أمام المسجد الأقصى، احتجاجًا على الجرائم الإسرائيلية. في هذا الفضاء، تأسَّسَت وَحْدة الروح، وتراجعَت الحدود الفاصلة بين العقائد، بفضل قيمة الإنسان وروح التعاطف، لكن "الجمارك" الدينية سرعان ما تُطبَّق على الحدود، ويُعاد رسمُها.

في المسجد كنتُ أمام خطابَيْن مختلِفَين: خطاب فِقهيّ يَرتهِن بالنصِّ كمُحدِّد للعلاقة بين الإنسان وأخيه، وخطاب روحيٍّ صُوفيّ حيث الحبُّ هو الوساطة بين الإنسان والإنسان. هنا تُطرح قيمة الإنسان التي تجعل المشترَك مُمكنًا. ولا تزال هناك بعض النقاشات الفقهية قد يَخجل المرء من مجرَّد ذِكرها، مثل: "نجاسة الكفار"، أو مصافحة "الإنسان الكافر". فكيف يُتصوَّر نجاسة الإنسان وقد خلقه الله على صورته، حسبما جاء في الأحاديث الصحيحة؟

أمَّا الفِكر الصُّوفيّ، فقد كان سبًّاقًا إلى فكرة الإنسان المقدَّس، وفكرة الروح المشترَكة بين الأديان، وأيضًا إلى نقد "الغُرور الديني"، الذي يتقدَّس به صاحبُه ويُدنِّس غيره. تتحوَّل المحبة والتسامح إلى قيمة أخلاقية كونية، حيث يقول جلال الدين الرُّومي: "تَعالَ وكلِّمني ولا يهمُّ من أنت، ولا إلى أيِّ طريقة تنتمي، ولا من هو أستاذك، تَعالَ لنتكلَّم عن الله".

أعتقد أن عالَمَنا في حاجة إلى هذه الروح الصُّوفيّة، من أجل خَلْق دوائر روحيَّة مشترَكة، خصوصًا أنّ نشأة العصبيّات الدينية، ناتجة من انغلاق كل دِين أو طائفة على نفسه، في فضاءات منفصلة.

أقول: أَدْخِلُوهم مساجدَكم وكنائسَكم، بل قلوبَكم، فالله يحبُّهم كما يحبُّكم.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive