الرجوع

الإيمان ملاذ سلام الأديان

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٦/٠٧ |

هـ ١٤٣٨/٠٩/١٣

يتشكّل الاعتقادُ في الذهن في إطارِ الأنساقِ الاعتقاديةِ المجتمعية المولّدة له، فمثلا لا يعتقد بإلهٍ ذلك الإنسانُ الذي يولد ويعيش في سياق أنساق اعتقاد بوذية أو هندوسية أو طاوية، إذ لا تحضر في ذهنه صورة للإله،كما في الأديان الإبراهيمية، وإن كان يخضع في بناء متخيله الديني للأسوار التي بناها رجالُ الدين ومؤسساتُه في موطنه وديانته، ولا تتزحزح هذه الصورة أو يخرج عنها، إلّا بعد أن يخترقَ تفكيرُه تلك الأسوار، فيهدمَها بالأسئلة العميقة والنقد الجذري.

أما الإيمان فهو ليس فكرةً نتأملها، أو معرفةً نتعلمها، أو معلومةً نتذكرها. الإيمان حالة للروح نعيشها، وتجربة للحقيقة نتذوقها. الإيمان ملاذه القلب، ومسكنه الروح. وهو ليس صورةً ندركها، الصورة تتشكل في الذهن وهو من يختزنها. الإيمان يثري الروح والقلب، فيلهمهما الطمأنينةَ والسكينةَ والسلام، حتى يبلغ توحدُ القلب والروح بالإيمان مرتبةً لا يخضعان معها لمعادلات الذهن ومشاكساته مهما كانت.

الإيمان حالة ديناميكية حية، تنمو وتتغذى وتتطور وتتكرس. إنه جذوة متوهجة، كأنها طاقةٌ كهربائية. الإيمان يضيء الروحَ لحظةَ حضوره، مثلما تضيء الكهرباءُ المصباحَ المظلم لحظةَ وصله بها. وهذا معنى كونه حالةً نتذوقها كما نتذوق الطعام الشهي والشراب اللذيذ.

الإيمان يفيض على صاحبِه طاقةً ملهمة، إذ لا يجد نفسَه في غربة إلا ويهمس إليه صوتُ الله، فتستفيق روحُه بعد غفوتها، وتمتلئ بعد خوائها، وترتوي بعد ظمئها، ويتجدد وصالها بمن أودعها عنده، لأن الروح وديعة الله عند الإنسان. ففي كلّ غياب للإنسان يجد أن حضورَ الله هو الحضور، واحتجابَ الله عنه ليس سوى احتجابه عن الله.

الإيمانَ يحقق الإنسانَ في طور وجودي جديد؛ فحيث يسافر الإنسانُ للحق تتكرس قدرته، وتترسخ إرادته، وتتعذر هزيمته، لأنه يتحقق بالحق. وبذلك يجعل الإيمان الأشياءَ المستحيلة ممكنة، والشاقّةَ سهلة، والمرّةَ حلوة.

الإيمان والحب كلاهما كيمياء للروح، كلاهما منبثقان من جوهر واحد، يولدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرسان معًا، ويتوحدان معًا، فحيث اشتد الإيمانُ يشتدّ الحب، وحيث ذبل الإيمانُ يذبل الحب. إنهما في صيرورة وتفاعل وفوران، يتحول الإيمانُ إلى حب، كما يتحول الحب إلى إيمان. الإيمان عصارة الحب، والحب عصارة الإيمان. فكلتا الحالتين تنبثقان من منبع واحد وتستقيان منه، يصبح كل منهما صورةً لحقيقة واحدة متعددةَ الوجوه. حين يصير الإيمانُ حبًّا والحبُّ إيمانًا تشهد حياتُنا أنوارَ الأبد.

أما الاعتقاد فهو مفاهيم ميكانيكية جاهزة، مستودعة في الذهن، مفرغة من كلّ نبض وحياة، لذلك يفشل الاعتقادُ في التحول إلى حب، كما يفشل الحب في التحول إلى اعتقاد.

لا يولد السلام بين الأديان في فضاء الاعتقاد، وإنما يولد السلام بين الأديان في فضاء الإيمان، لأن المؤمنين في كلّ الأديان يستقون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلى لكل منهم في صور تتنوع بتنوع دياناتهم، وبصمة بيئاتهم، فيعيشون التجارب الروحية الملهمة للطمأنينة والسكينة والسلام ذاتها. الإيمان حقيقة يتجلى فيها جوهرُ الأديان، والأرضية المشتركة التي تتوحد في فضائها، والشلال الملهم للحياة الدينية فيها.

لا يتخلص الإنسان من نزاعات الأديان وحروبها إلا في فضاء الإيمان. في الإيمان تلتقي الأديان وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشف شفرة اللغة الروحية المشتركة التي يتحدث بها إيمانها، لكنها تتفرق وتختلف في الاعتقاد، لأنها تتحدث لغات شتى، لا تفقه كل منها الأخرى.

 الاعتقاد يرسم جغرافيا الأديان ويضع الحدودَ الصارمة لها، والحدود بطبيعتها تنفي ما وراءها، ولا تقبل كلّ ما هو خارج فضائها. وذلك ما يبرّر الأفعالَ المتوحشة، مثل العمليات الانتحارية ضد الآخر المختلف. من هنا تأتي الحاجة لتحديث التفكير الديني، وتشتدّ الضرورة إليه في كل عصر يحتجب فيه الله عن العالم، من أجل تحرير الدين من الاغتصاب، وبعث الإيمان، وحماية الاعتقاد من الاستغلال في ما يدمر الحياة.

الإيمان الذي تحدثتُ عنه هنا هو إيمان الحرية لا إيمان الاستعباد، إيمان الحرّ لا إيمان العبد.كل إيمان عندما يصبح حقيقةً حيةً، وإشراقةَ نور تلهم الروحَ كلَّ معنى جميل، لن يكون إلا حرًّا ومُحرِّرًا.

وهذا النمط من الإيمان المحرِّر هو ما يؤنسن البشرَ، فهو بقدر ما يحرّر صاحبَه من كلّ أشكال استعباد الروح والقلب والضمير والعقل والجسد، فإنه يصيّره مواطنًا كونيًّا، ينتمي للإنسان بوصفه إنسانًا، من دون نظر لمعتقد أو عنصر أو جغرافيا أو ثقافة. لذلك تصبح قضيتُه العظمى تحريرَ الإنسان من حيث هو إنسان من كل أنواع الاستعباد.

أما إيمان الاستعباد، فهو ضرب من خراب الروح ومرض القلب وشقاء الضمير وسبات العقل. إنه يستبدّ بصاحبه فيأسره، ويُعمي بصيرته، ويصيّره كائنًا متوحشًا، مولعًا بالموت لا الحياة، بالحرب لا السلام، بالكراهية لا المحبة. لا يعرف معنًى لاحترام حقوق الناس وحرياتهم. لا يكترث لما تقوله أخلاقُه وإنسانيتُه، لأنه في كلّ قول وفعل أسيرُ صورة إله دموي محارِب، وعبدٍ لمعتقده هذا.

في فضاء إيمان الحرية تنشأ وتتشكل وتتطور معتقداتُ الحريات والحقوق، وفي فضاء إيمان الاستعباد تنشأ وتتشكل وتتطور معتقداتُ العبودية والاستبداد.

هذه رؤيتي للإيمان والاعتقاد، كتبتها في سياق خبرتي الدينية، وتجربتي الروحية. وكل رؤية مرآة الرائي، وصورة ذاته، وتجلٍّ لكينونته. وقد تجنبت فيما كتبت الضياع في متاهات اللاهوتيين والمتكلمين، التي تذوي فيها الاستبصارات المضيئة للروح وتنطفئ.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive