الرجوع

الاحتجاج والديمقراطيَّة المنقوصة في العراق

الأربعاء

م ٢٠١٨/٠٨/٢٢ |

هـ ١٤٣٩/١٢/١١

في العراق انتهى الصراع مع "داعش"، وأعلنت الحكومة نصرها العسكري، الذي يراه كثيرون "فخرًا ناقصًا"، في ظلِّ إفْلات المتسبِّبين بسقوط المَوصِل. العراقيُّون "المنتصرون"، يقِفُون في مواجهة الصراع المتجدِّد منذ سنة ٢٠١١ ضد الفساد الحكومي، عندما خرَجوا إبَّان حُكم "المالكي" في مظاهرات. حينذاك وعدَهُم بالإصلاحات، وأخْلَف وعدَهُ خلال ولايتَيْن رئاسيَّتَين.

بعدها جِيءَ بـ "العبادي" من نفس الحزب الإسلامي الحاكم، لِتَعود التَّظاهُرات الشعبية إلى الساحة بقيادة التيّار المدني في سنة ٢٠١٥. لكنَّ الإسلاميِّين دخَلُوا مُمثَّلِين بالتيَّار الصَّدْري، الذي ركِب موجة التَّظاهُرة مُطالبًا مع الحركة المدنيّة بالإصلاح، ومندِّدًا بالفساد، مع أنهم شارَكُوا في الحُكم آنذاك بأربعة وثلاثين مقعدًا نيابيًّا، وثلاث وزارات. احتجاجات سنة ٢٠١٥ جرَى تَمْييعُها، بعد أن ترَك الصَّدرُ الساحة ومُتَظاهريها متوجِّهًا إلى طهران، و"اعتَكَف" هناك.

النتيجة التي تُحسب للحركات الاحتجاجيَّة العراقية للتيّار المدني في سنة ٢٠١٥، هي القدرة على زعزعة قدسيَّة عِمامة رجُل الدين السياسي ممَّن ثَبت فسادُه. فتعالت الأصوات بشعارات ضد الأحزاب الإسلامية، أبرَزُها: "بِاسْم الدِّين سُرِقَ الشَّعب". هذا النوع من الهتافات، اعتُبر خطوة أوّليّة للتغيير المنشود، لدى شعب يختار ممثِّليه "ديمقراطيًّا"، على أساس ديني، أو عاطفةٍ طائفية بَحْتة، متعلِّلًا بفَتاوَى تُطلقها مرجِعيَّاته الدينية، التي يتعكَّز عليها في قراراته السياسية وصَوته الانتخابي.

في الانتخابات الأخيرة التي جرت في مايو/أيّار الماضي، نجح المقاطعون لها في الترويج ضدها. فسجَّلَت مفوَّضيّة الانتخابات نسبة تصويت لا تتجاوز ٤٤٪، وذلك مع تعسير إعلان النتائج، خاصة بعد حادثة إحراق صناديق الاقتراع ببغداد، والاعتراض على النتائج؛ ما أدَّى إلى تفويض لجنة قانونية للعدِّ والفرز اليَدويّ.

وسط هذا كلِّه، تَفجَّر الموقف بتصاعد وتيرة الاحتجاجات التَّمُّوزيّة، التي انطلقت من مدينة البصرة الجنوبية، لتمتدَّ نحو مدن أخرى في الدِّيوانية، والسّماوة، إضافة إلى مدينَتَي النجف وكربلاء، اللَّتَين تمثِّلان عاصِمتَين دينيَّتَين للطائفة الشيعية، واللَّتَين تَحرص العِمامة الحاكمة على إبعادهما عن الاحتجاجات بشتَّى الطُّرق.

الشباب المتظاهر طالَب بالإصلاح والقضاء على الفساد، وتوفير العمل وسط بطالة تصل إلى أكثر من ١٠٪، في بلد يشكِّل شبابُه نسبة 60% من سكان العراق. فردَّت السُّلطة على المحتجِّين بالرصاص الحيّ وأسْمَتْهم بـ "المُندسِّين"، وقتلَت ما لا يقلُّ عن ٢٣ عراقيًّا، ولاحقَت الناشطين عبر التقارير والكتب السِّرّيَّة، ثم ختمَت الأمر بقطع خدمة الإنترنت، وحَجْب مواقع التّواصُل عن المواطنين أيامًا عديدة؛ ما ذكّر بقمع اعتقد كثيرون أنه قد ولى مع عهود سابقة إلى غير رجعة.

ما تفتقده احتجاجات الحركة المدنية في العراق مع استمراريّتها منذ سنة ٢٠١١ حتى اللحظة، هو وجود مركزية حقيقية لقوة مدنية تقدُّمية، تقود التّظاهُرات إلى النهاية بشكل يفصل العِمامة عن الحُكم، ويؤسِّس لمجتمع لا يتبنَّى الأيديولوجيّة الدينية ذات المصلحة الفئويّة الخاصة، التي تَسُوقها الأحزاب السياسية التي تعتاش على عاطفة الطائفية. لكن، كيف يجري ذلك والقوى الاحتجاجية التي كانت حاضرة في سنة ٢٠١٥ بساحة التحرير، هي في تظاهرات سنة ٢٠١٨ حليفة انتخابات لتيّار ديني؟ لذا، لم يكن الصَّدْر ولا قوَّتُه الشعبية الصَّدرية موجودَيْن في الانتخابات، بعد أن حصَد تيَّارُه النسبة العُليَا في الانتخابات بواقع ٥٥ مقعدًا.

أُفرزَت النتائج بعد أشهُر ثلاثة من العدِّ والفرز اليَدويّ، وأعداءُ الأمس ربَّما يحاولون التحالف لتشكيل الكتلة الكبرى للحكومة الجديدة، والفَضُّ بالقوة المسلَّحة مستمرٌّ للشباب العراقي المعتصم في الجنوب، وسط غياب واضح للإعلام. فالتَّظاهُرات الأخيرة فضحَت تَخاذُل شبكة الإعلام العراقي، التي أُسِّسَت لتكُون بمنزلة إعلامٍ مستقلٍّ بعد حُكم صدّام، على اعتبار أن التجربة الديمقراطية في العراق لا تحتاج إلى تطبيل. لكننا بالنتيجة، حصلنا على أبواق للسُّلطة ولرئيس الوزراء، بميزانيَّات انفجاريّة.

قبل أيام شاهدتُ تقريرًا عن مدينة درعا، التي تُعتبر مهد "الثورة السورية"، بعد استعادة سيطرة نظام الأسد عليها. مَشاهد القوّات الرُّوسيّة ومدرَّعاتهم والدَّمار الكبير في المدينة، أعاد إلى ذاكرتي أحداث سنة ٢٠٠٣ العراقيّة. لكن المؤلم بحقٍّ، كان مَشهد الأطفال المُنهَكين، وهم يردِّدون شِعار فِدَاء الحاكم الأسد بأرواحهم ودمائهم.

هي الأنظمة والنهج نفسُه منذ عقود طويلة، رغم تعاقُب الأجيال في أوطاننا. فلماذا فشلنا في التغيير؟ في العراق، لدينا عملية "ديمقراطية" منذ سنة ٢٠٠٣، لكننا حصَرْنا دورها في إعطاء الفئةِ المُتحاصِصَة طائفيًّا والتي تستهدف المُحتجِّين اليوم، الشَّرعيَّةَ السياسية. يبدو أنها ديمقراطية الدِّيَكة المتصارعة ليس إلَّا. فهل ستكون الدِّيَكة ذكيَّة بما يكفي، لتجنيب الجنوب العراقي صراعًا مسلَّحًا، على غِرار ما حصل في المَوصل؟

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive