الرجوع

ال”بوتوكس” في زمن التعددية

الثلاثاء

م ٢٠١٧/٠٣/٢١ |

هـ ١٤٣٨/٠٦/٢٣

رفضوا الأنف الأفطس، ونبذوا الشفاه الدقيقة، وأعلنوها حربًا شعواء على كل من لا يملك (أو بالأحرى تملك)، أنفًا قوقازيًّا، وشَعرًا أملس مَلاسَة الحرير. أما الصدور فنُفِخت، والمؤخرات شُفِطت، والحواجب وشمت، والقوالب صارت متطابقة تطابقًا يهدد الاختلاف، ويتوَعَّد التباين، وينذر بمواطنين سابقي التعليب. ومَن لم يخضع (أو تخضع) للقالب ذي المقاييس الموصوفة والمعايير المحسوبة، فقد يعرِّض نفسه للمساءلة الاجتماعية والمُعايرة الجمالية، وربما أيضًا للمنابذة المجتمعية.

قد يتقارب اثنان في شكل الأنف، وقد يتطابقان في الطول أو القصر، وربما يتشابهان في شكل العينين، لكن باستثناء التَّوأم المتطابق، فإن الفكرة من البشرية ذات بلايين الملامح والأحجام والأطوال بعيدة عن فكرة التطابق، ولو كان تطابقًا بحسب قياسات الكمال. وعلى الرغم من أن التعددية سمة من سمات البشرية شكلًاوموضوعًا، ومع صحة أنَّ مثقفين ومتنوِّرين يبذلون الجهد العميق، ويستثمرون الوقت الكثير، من أجل إزاحة الأتربة وإماطة المخاوف عن التعددية الدينية، والثقافية، والعرقية، في المعمورة - إلاَّ أنَّ الهجمة العاتية الشرسة المتنكرة في صورة تجميل، أو تزيين، أو تحسين، مع صبغها بصبغة "ما ينبغي أن يكون"، تضرب عرض الحائط بمفاهيم التعددية.

"تعرَّفوا على المعايير العالمية لجمال الوجه" (إم بي سي نت 2015). "سبعة معايير جمالية في المرأة يتفق عليها الرجال" (البوابة نيوز 2015). "باحث نمساوي يحدد ثمانية معايير للجمال والقبح" (إيلاف 2010). "الاختبار الذي يحدد لك مقدار جمالك" (دايلي ميل 2014). "مقاييس الوجه الرائعة يمكن قياسها" (بي بي سي). "قياس جمال جسد المرأة باستخدام قياس إحصائي للجسم كله" (دراسة على موقع مكتبة الولايات المتحدة الأميركية الوطنية الطبية). وقائمة طويلة من الكتابات والمواد المرئية والمسموعة، التي تتسلل إلى أدمغتنا من بوابة الجمال والروعة، لكنها في حقيقة الأمر تدقُّ مسامير إضافية في نعش التعددية، حيث ترويجٌ شِرِّير لرفض الأشكال والأحجام المغايرة للمعايير.

وبحسب معجم المعاني الجامع، فإن "معيار" يعني: "نموذج مُتحقَّق لما يبنغي أن يكون عليه الشيء"، و"غير المعياري" هو المختلف وغير الملتزم بالمعيار المحدد. والمقصود هنا ليس رفضًا لعمليات التجميل، لكن المقصود قليل من البحث والتحليل في الترويج لقوالب جامدة، وأنماط ثابتة من البشر، باعتبارها ما ينبغي أن يكون، وما لا ينبغي هو ذلك الرافض للخضوع للمعيار.

هذه المعايير تحدد شكلًا معيَّنًا للأنف، ورسمًا بعينه للعين، ومقاسات بذاتها للصدر والخصر والأرداف، بالإضافة إلى بشرةٍ (يفضل أن تكون بيضاء) ذات ملمس مخملي، وشَعر (يفضل أن يكون أشقر) منسدل على الكتفين، وأطراف بنسب محدَّدة من العضلات والأعصاب، وكمية محسوبة بدقة من الدهون، وكل ما عداها يجب إزالته. إزالة الزيادات ، وإضافة النواقص، وشدُّ ما يستوجب الشد، ونفْخ ما يستلزم النفخ، وشفط ما ينبغي شفطه، وإعادة هيكلة ما يفضل هيكلته، وترميم ما نال منه الزمان، وإعادة ترسيم الحدود الضائعة بين الذقن والرقبة بفعل اللُّغْد اللعين، ورأب الصدع بين طرفي (السَّحَّاب) تحت وطأة ما اكتنز من لحم وما تراكم من شحم. جميعها أمور تخص صاحبها، وقرارُ إنجازها يملكه وحده، لكن غرْس قيمة التطابق في حجم الفم، وملمس الشعر، واتجاه العين، ونسبة الدهن، وطول العضلة، والشكل الهندسي للحاجب، والنظر إلى الأعضاء البشرية التي تحيد عن "المعيار"- جريمة في حق البشرية.

روِّج لمنتجاتك التجميلية كيفما تُرِد، وانشُر رؤاك للجمال مثلما تُحبّ، وبُث أفكارك عن الأنف الذي تفضِّل، أو الفم الذي تهوى، أو الحاجب الذي ترجِّح، لكن لا تضرب عرض الحائط بنواميس الطبيعة. وإذا كان بعضهم بُحَّ صوته في سرد محاسن تعددية البشر الفكرية، والدينية، والثقافية، والعرقية، والأيديولوجية، وأفنى حياته ليثبت محاسن التعدد ومناقب الاختلاف- فإنَّ آخرين بُحَّ صوتهم أيضًا في التحذير من مساوئ هذه التعددية، وأفنوا حياتهم وحياة من حولهم قتلًا في ميادين حروب مهترئة، أو في ساحات جهاد مختلقة، ظنًّا منهم أن الله خلقهم لإجبار الآخرين على اتِّباع الدين نفسه.

وإذا كان الله خلقنا طِوالًا، وملامح، وأوزانًا، وأنوفًا، وشفاهًا، وعيونًا، وحواجب مختلفة، فأغلب الظن أن تعدديَّتنا الشكلية مقصودة، وأن الجهاد في سبيل تنميطنا عبر بوتوكس هنا، أو فيلر هناك، أو نفخة سريعة هنا، وشفطة عميقة هناك، لن يجعل من الكوكب مكانًا أجمل، أو أقلَّ ترهُّلًا، بل الترهل يسكن عقولنا.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive