الرجوع

التعددية الفطرية: “جنة الأطفال”

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٥/١٠ |

هـ ١٤٣٨/٠٨/١٤

’’كل الخلق من أصل طين‘‘... ’’وكلهم بينزلوا مغمضين... عن الشر والأذى‘‘... كلمات قالها فيلسوف العامية المصرية الكبير صلاح جاهين...

"البراءة" هي سِمة الإنسان عند مولده، وتبقى تميزه في مرحلة الطفولة، وتميز علاقاته بالآخرين من أقرانه من الأطفال. فالحياة الإنسانية عندئذ تكون "طبيعية"، و"فطرية"، و"حقيقية". لذا، تكون بلا "حسابات"، وبلا "مساومات"، وبلا "مناورات". حياة الطفولة: حياة إنسانية لا تعرف "التصنيف"، تُقبل على التعامل الحر دون "شروط"، أو "أحكام مسبقة"...

في هذا المقام، ليسمح لي القارئ الكريم بأن أشاركه أفكارًا، لا أنساها قط منذ اطلعتُ عليها، وكانت ملهمة بامتياز، وردت في قصة "جنة الأطفال"، لأديب نوبل العظيم نجيب محفوظ (المجموعة القصصية خمارة القط الأسود ـ 1969). وتدور حول نظرة الأطفال البريئة إلى الآخرين، والتي تنعكس في علاقات نقية يتبدى فيها العالم بالنسبة إليهم كالجنة. وبفعل البراءة والبساطة، نجد الطفلة بطلة القصة تطرح أسئلة بسيطة جدًا، ولكنها تحمل عمقًا فلسفيًا لا يستطيع الأب أن يجيب عنها، مما يضطره إلى أن يحتد ويتوتر. وهنا يبدو كما لو أن الحياة وقد انشطرت إلى مكانين متناقضين هما: ’’جنة الأطفال‘‘، و’’نار الكبار‘‘.

تبدأ القصة بعودة الطفلة في أحد الأيام من مدرستها، وفور دخولها إلى المنزل تسأل والدها: "أنا وصاحبتي نادية دائمًا مع بعض... في الفصل، في الفسحة، وساعة الأكل. لكن في درس الدين، أدخل أنا في حجرة، وتدخل هي في حجرة أخرى... لم يا بابا؟"

 ويجيب الوالد: "لأنك لك دين، وهي لها دين آخر".

وعادت وسألت الطفلة: "لم أنا مسلمة؟".

فأجابها الوالد: "بابا مسلم، وماما مسلمة، ولذلك فأنت مسلمة". وعقَّبَت: "ونادية؟".

أجابها الوالد: "باباها مسيحي، وأمها مسيحية، ولذلك فهي مسيحية".

وكان رد فعل الطفلة مفاجئًا للوالد، حيث قالت: "هل لأن باباها يلبس نظارة؟"...

’’الطفلة البريئة حاولت أن تتفهم الاختلاف، فلم تجد سوى النظارة التي يلبسها والد نادية، هي مكمن الاختلاف الوحيد بينها وبين نادية‘‘.

 ومع تطور الحوار قالت الطفلة: "من أحسن؟"

لقد أدى الواقع إلى تجسيم أن هناك اختلافًا بين الطفلة وصديقتها، بعد أن كانتا في حالة تعايش بغير التفات لأي اختلاف.

عند هذا الحد من السرد، وكلما تكثر الطفلة من أسئلتها البسيطة البريئة، يقدِّم الأب إجابات تعمق الانقسام. فالأسئلة التي نتصورها بديهية وسهلة، نجدها ليست كذلك، والإجابات التي نظنها حاسمة، تزيد من التباس الطفلة وقلقها.

ونعود للقصة، فنجد الوالد يصرخ في ابنته: "الله يقطعك أنت ونادية في يوم واحد".

ويظهر للوالد أنه يخطئ رغم الحذر، وأنه يدفع بلا رحمة إلى عنق الزجاجة، حيث انطلقت الطفلة تسأل:

"ما معنى خالق يا بابا؟

وأين يعيش؟

ولم يريد الله أن نموت؟"

يجيب الوالد: "هو يأتي بنا إلى هنا، ثم يذهب بنا".

وتسأل الطفلة: "لم يا بابا!"،

فيجيب الوالد: "لنعمل أشياء جميلة هنا قبل أن نذهب".

وتسأل الطفلة مرة أخرى: "ولم لا نبقى؟"

يرد الوالد: "لا تتسع الدنيا للناس إذا بقوا". وتستفهم الطفلة: "ونترك الأشياء الجميلة؟"

يجاوبها الوالد: "سنذهب إلى أشياء أجمل منها". وفجأة تقول الطفلة: "إذن يجب أن نذهب؟"

وبسرعة يقول الوالد: "ولكننا لم نفعل أشياء جميلة بعد".

فتقول الطفلة: "ولكن لولو جارنا يضربني ولا يفعل شيئا جميلا. فهل يموت رغم أنه لا يفعل أشياء جميلة؟"...

يقول الأب: "الكل يموت...فمن يفعل أشياء جميلة يذهب إلى الله...ومن يفعل أشياء قبيحة يذهب إلى النار".

وحرك تيار الأسئلة علامات استفهام راسبة في أعماقه.

وفجأة هتفت الطفلة: "أريد أن أبقى دائمًا مع نادية"...

وهكذا تتجلى التعددية الفطرية لـ"جنة الأطفال"، أمام "الأحادية القسرية"، أو "نار الكبار"...

فعلى الرغم من إجابات الأب "الخشبية"، تظل الطفلة متمسكة بالحياة مع نادية صديقتها التي لا تراها مختلفة عنها، بل تجدها شريكة لها. وهنا لابد لنا من أن نفهم ما الذي يصيب التعددية الفطرية، التي جبلنا الله عليها، ونبحث عن الأسباب الحقيقية التي تؤدي بنا إلى تبني قيم الأحادية القسرية...وما الذي يدفعنا إلى ترك جنة الأطفال إلى نار الكبار!

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive