الرجوع

الدِّيمقراطيّة حين تنقلب يمينًا متطرِّفًا

الجمعة

م ٢٠١٨/٠٨/١٠ |

هـ ١٤٣٩/١١/٢٩

خلال السنوات القليلة الماضية، ووُصولًا إلى اليوم، شهد ويشهد العالَم صُعود أحزاب وشخصيات سياسية يمينيّة متطرِّفة، توصَف بالشَّعبَويّة، كما هو الحال في أميركا وإيطاليا وتركيا وغيرها، حتى في بعض بلداننا العربية، التي يبدو فيها أن هذا النمط من الحُكّام والأنظمة، لم يَعُد جديدًا عليها.

يَربط مُراقِبون صُعودَ اليمين المتطرِّف بالإرهاب، وبما سبَّبه من إسلاموفوبيا. فازدياد الأعمال الإرهابية في الغرب، ضاعَف المخاوفَ من "الغُرَباء"، والشعورَ بتهديدٍ لِلهُوِيّة الوطنية هناك؛ ما دفع بالشَّعبَويِّين إلى الواجهة. مُراقِبون آخَرون يقولون بالعكس: إن الإسلاموفوبيا وهذا التوجُّس من الآخرين، هُمَا ما سَبّبَا الإرهاب وأطلَقَاه (كما ذكر شملان العيسى في "الإرهاب وصُعود اليمين الأوروبِّي").

على أيِّ حال، يمكن القول إن من الأسباب المباشرة للصُّعود الحاليِّ والأخير لليمين، ما هو أحدَثُ عهدًا من قضايا الإرهاب والإسلاموفوبيا؛ أقصِد بذلك المأساة السورية، وما أدَّت إليه من أعدادٍ هائلة من اللاجئين، جعَلَت تَغيُّرَ توَجُّهات الناخبين في البلدان المقصودة أكثرَ وضوحًا، ما دفع بوجوه اليمين الشَّعبَويِّ إلى المقدمة وواجهة الأحداث.

وأيضًا من أسباب صُعود اليمين الشَّعبَويّ، قدرة روَّاد هذا الاتجاه على اختلاق المآزق والأزمات، التي يُضفون عليها الصِّبغة الوطنية. فيُحرِّضون على الآخر المختلف دينيًّا أو قوميًّا، ويَحُضّون ضِمنًا على كراهِيَته، مغلِّفين طروحاتهم بأبعاد القومية والدفاع عن الهُويّة، ويحرِّكون غرائز الجماهير، بإثارة مخاوفها من مشاكل وهميَّة أو مضخَّمة.

هذا الخطاب اليميني، المَدعُوُّ وطنيًّا وقوميًّا، يمهِّد في كثير من الأحيان لهدر دم المختلفين، والخصوم السياسيِّين، والمدافعِين عن حقوق الإنسان، الذين لا يَتماهَون مع خط اليمين "الوطني"؛ فتَغدو صورتُهم كخُصومٍ، صُوَرَ خَوَنةٍ ومُسبِّبِي أخطار، غير وطنيِّين، يتستَّرون بحقوق الإنسان، ليسمحوا للغُرَباء أو المختلفين باستباحة الوطن وتدنيسه.

وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، الذي يَشغل أيضًا منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، دعا إلى إحصاءٍ خاصٍّ بالغجر في إيطاليا، ليُصار إلى طرد من لا يتحدَّرون منهم من أصول إيطالية، وعبَّر عن أسفه لعدم إمكانية طرد الغجر ذوي الأصول الإيطالية. وكان سالفيني قد ربط الغجر خلال الدفاع عن أفكاره بـ"الجرائم وتعليم الأطفال السرقة والتسوُّل"، معتبرًا أن "الإيطاليُّون وأمْنُهم يأتون أوّلًا". هذه الـ "أوّلًا"، تعني أن حقوق الإنسان والديمقراطية تأتيان لاحقًا، أيْ ثانيًا أو ثالثًا... أو ربَّما عاشرًا. وهذا ما قد يفسِّر رفض السلطات الإيطالية، السَّماح لسفن إنقاذ اللاجئين بالرُّسوِّ في موانئها كالعادة. بالطبع، لا يمكن تجاهُل الاعتراضات على هذه السياسات، مِن قِبَل تيَّارات سياسية أخرى، وجماعات حقوقية، والكنيسة الكاثوليكية.

حالات مشابهة تجري بطريقة تكاد تكون حِرفيَّة، في بلدان مجاورة لسوريا، حيث أثار مسؤولون سياسيُّون رئيسيُّون، خلال منافسات انتخابية أحيانًا، المخاوفَ الشَّعبَويّة من اللاجئين، لتسخيرها في حَصْد شعبيَّةٍ انتخابية. في حالات أخرى، جرّب هؤلاء السياسيُّون الحصول -بطريقة ابتزازيَّة- على مساعدات مالية من الدول المانحة، سيكون مصيرها غالبًا الدخول في منظومة فساد، تُضْعف فاعليّة هذه المساعدات، أو تَحُول دون الاستفادة الفعلية لِلَّاجئين منها.

في حالات أخرى أكثر تطرُّفًا، عمَدَت سلطات سياسية إلى عمليات الاعتقال التعسُّفي، والتعذيب، وأحكام الإعدام الجائرة، والنفي، حتى إلى الاغتيال، تحت نفس الشِّعارات التي تركّز على عدم أهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان، أمام الحفاظ على الهُويّة وحماية المواطنين الأصليِّين.

كلُّ ما سبَق يَطرح تساؤلات، حول طُرق مجابهة هذا اليمين المتطرِّف والوقوف في وجهه. فكيف السبيل إلى مقارعة خصمٍ، لا يتورّع عن استعمال أدوات وأسلحة غير شرعية وغير أخلاقية، في معركته السياسية؟ وكيف يمكن لك الصمود في وجه من لا رادِع لديه، وأنت تَمنعُك مبادِئُك وأخلاقك من اللجوء إلى وسائل لاأخلاقية لمواجهته؟

هل تكمن المشكلة في الديمقراطية؟! هي سمحت لجزء كبير من هؤلاء بالوصول إلى السلطة. صحيح أنها ليست نظامًا خاليًا من العيوب، ولكنها النظام الأفضل حتى الآن. قد يَجدُر التذكُّر بأن الديمقراطية لا تُختصر بصندوق انتخاب، بل هي نظام سياسي متكامل (منهج، وطريقة تفكير، وممارسة)، وأنَّ أيَّ سلطة مُنتخَبة لا تراعي احترام حقوق الإنسان، هي سلطة مُنتقَصةُ الشرعية، لا يمكن الركون إليها.

الخاسر الأكبر من صُعود اليمين الشَّعبَويّ، هو حقوق الإنسان، كُلّ إنسان، والروح الحقيقية للديمقراطية، حتى ذاك الذي يَنتخب هذا اليمين. وليس مِن سلاح في أيدينا -نحن معشر المؤمنين بالحريات والتعددية والديمقراطية وبكلِّ حقوق الإنسان- إلّا التمسُّكُ بمبادئنا وأخلاقيّاتنا، وفهمُ مخاوف الآخر ودوافعه، والسعيُ التراكميّ بما يمكننا من أدوات تَوعَويَّة إلى التغيير الفعلي في الذهنيات، وطُرق التفكير المُفْضية إلى ديمقراطيّات حقيقية أكثر استدامة.

حتى ذلك الحين، علينا أن نَصمد!

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive