الرجوع

الطائفيّة وزعماؤها

الخميس

م ٢٠١٧/٠٣/٣٠ |

هـ ١٤٣٨/٠٧/٠٣

ليس للطوائف زعماء، بل للطائفيّة زعماؤها. فالطائفة تعني جماعة، أو فرقة، يجمع بين أفرادها أمر مشترك. فنقول طائفة من المؤمنين، أو طائفة من العلماء، أو طائفة من المعترضين، إلخ. وقد شاع استعمال المصطلح، بخصوص جماعات الناس التي تجتمع حول مذهب ديني واحد، فنتحدّث مثلًا عن الطائفة الشيعيّة، أو الطائفة المارونيّة، أو طائفة أهل السنّة والجماعة. ولكلِّ من هذه الطوائف، بالمعنى الديني للكلمة، مرجعيّتها الروحيّة، وآليّات وصولها إلى السلطة وممارستها. فنتحدّث على سبيل المثال عن مفتي الجمهوريّة، أو بطريرك الكنيسة، أو هذا المرجع، أو ذاك، الذين يُمارسون مهمّة دينيّة في إطارها الفقهي، أو الروحي الخاص.

في حين يتحدّث الإعلام والناس عن زعماء طائفيّين، خاصة في مجتمعات مثل لبنان والعراق، فلكل طائفة زعيمها، أو زعماؤها. فمَن هؤلاء؟ ومن يصنع منهم زعماء؟ في لبنان مثلًا، ينتخب اللبنانيُّ ممثّليه في الندوة البرلمانيّة، أَمِن طائفته كانوا، أم مِن طائفة أخرى، وفق توزيع النوّاب على الدوائر الانتخابيّة. والنائب يمارس مهامه التشريعيّة باسم الشعب اللبناني، وليس باسم طائفته الدينيّة، أو المذهبيّة الخاصة. كذلك الوزراء، فهم يحكمون ويمارسون صلاحياتهم ضمن وزاراتهم، أو مجتمعين في مجلس الوزراء باسم الدولة اللبنانيّة، وليس باسم طوائفهم.

لهذا نسأل لماذا يصبح أهل السياسة ذوي صفة طائفيّة عندما تكون مهامُّهم وقراراتهم جميعها، متعلّقة حصرًا بقضايا الشأن العامّ والمسائل الوطنيّة، التي تَطُول جميع المواطنين بدون تمييز؟ إنّنا بالطبع نطرح هذا السؤال؛ لأنّ في الواقع خللًا نريد استبيان جذوره. أرى ثلاثة أسباب لهذا الخلل، وهي غالبًا ما تكون متشابكة في ما بينها.

السبب الأول، يرتبط بضعف ثقة المواطنين بعضهم ببعض، ما يَنتج منه الحذر، والخوف من الآخرين على أساس انتمائهم الطائفي. يرجع ذلك إلى أسباب عديدة، منها الذاكرة المجروحة المرتبطة بصراعات وحروب سابقة، وقد يكون ذلك نتيجة الشعور بالمظلوميّة لدى فئة من الشعب، بسبب خصوصيّتهم الطائفيّة. في هذه الحالة، يُصبح سلّم الأولويّات لدى المواطنين، مختلفًا عما هو في مجتمعات ذات استقرار سياسي، وممارسة ديمقراطيّة ناضجة. فبدل البحث عن البرنامج السياسي الأفضل، الذي يُؤمّن النمو الاقتصادي، والتطور، والرقيَّ الاجتماعي، غالبًا ما يلجأ المواطن إلى من يفرض نفسه بالقوّة الماديّة، أو المعنويّة، كحامٍ له، ومُدافعٍ عن حقوق الطائفة، من "أعداء" حقيقيِّين، أو وهميّين. هذا الواقع، يُحوِّل المسؤولَ السياسي إلى "زعيم"، بما تعني هذه الكلمة لغويًّا، أي "الضامن، والكفيل". وتكمن خطورة هذا الموقف، في أنّه يجعل من السياسة صراعًا للبقاء، ومن بعض المواطنين أعداءً يتنافسون في خيرات الوطن، بدل أن يكونوا شركاء في النضال، والمصير.

أما السبب الثاني، فيتعلّق بعدم الفصل الحقيقي بين السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، وبتسخير الإدارة العامة لسلطة الزعماء. يُعطّل ذلك آليَّات الرقابة، والمساءَلة، والمحاسبة، وقدرة المواطن على تحقيق أهدافه، والدفاع عن حقوقه قضائيًّا، بما في ذلك مواجهة الحكام، إذا خرجوا عن سبيل العدل والحق. وفي هذه الحالة تنتشر الزبائنيّة الطائفيّة، بحيث يُصبح الزعيم الطائفي الملجأ، والمعبر الضروري لوصول المواطن إلى حقوقه في تعامله مع الدولة.

والسبب الثالث، قد يكون في مقاربة أهل السياسة أنفسهم، للمشاركة في إدارة الحياة العامة، وممارسة الحكم، حيث يجدون في ذلك مكسبًا لهم، ليس على الصعيد الاجتماعي وحسب، بل على الصعيد المادي، فيسخِّرون سلطتهم السياسيّة للاستفادة الذاتيّة، وتحقيق الثروات لهم، ولمن من حولهم. إذ غالبًا ما تترافق الطائفيّة مع منظومات واسعة من الفساد، واستغلالٍ للمال العامّ.

خوف، وزبائنيّة، وفساد، تُنتج زعماء طائفيّين، يُحوّلون الانتماء الطائفي الطبيعي لدى المواطن، إلى عصبيّة تُبعده عن منطق المواطنة، وتجعل الزعيم فوق كل محاسبة. فالمسؤول الذي يتّخذ صفة "الزعامة" هو طائفي؛ ليس بفعل انتمائه إلى جماعة دينيّة معيّنة، أو تمثيل مصالحها أو خدمتها، بل بسبب انتمائه إلى المنظومة الطائفيّة، التي تُشكّل بذاتها حالة شبه مستقلّة. هذا يجعلنا نقول إنّه إلى جانب الطوائف كجماعات طبيعيّة مختلفة في المجتمع، توجد جماعة، أو طائفة الطائفيّين، أي الذين يستغلون الخلل النفسي والسياسي ويغذّونه، ليتحكمّوا بالسلطة والمنافع المرتبطة بها. وقد نجد في بعض الحالات الزعماء الطائفيّين، متّفقين على حساب أبناء طوائفهم، وذلك بهدف المحافظة على مصالحهم. من هنا، أعتبر محاربة الطائفيّة واجبًا على أبناء جميع الطوائف، الذين يريدون أن يُصبحوا مواطنين راشدين، ومؤمنين صادقين.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive