الرجوع

الظلم باسم الدين

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٥/٢٤ |

هـ ١٤٣٨/٠٨/٢٨

بعد انتصار البلاشفة في ثورتهم عام 1917، نزح الآلاف من قوات الحرس الأبيض المناهض للسلطة الجديدة عن وطنهم روسيا، باتجاه مدن أخرى في أوروبا وشمال أفريقيا. من بين هؤلاء النازحين خمسة آلاف روسي لجَؤُوا على متن السفن إلى تونس، وحط بهم الرحال في ميناء بنزرت شمال تونس عام 1920.

لم تقدِّم تونس (التي كانت في ذلك التاريخ خاضعة للاحتلال الفرنسي) لِلاجئين الروس مأوى فقط، بل قدمت لهم أرضًا في قلب المدينة العتيقة لإنشاء كنيسة أرثوذكسية أُقيمت عام 1922، داخل أسوار المدينة العربية في قصر عربي في باب منارة.

وتضم تونس اليوم كنيستين أرثوذكسيَّتَين: واحدة للروس في شارع محمد الخامس في قلب العاصمة تونس، والثانية لليونانيين، وتقع مباشرة خلف الكنيسة الكاثوليكية سان فانسين دو بول، الواقعة في شارع الحبيب بورقيبة. الحقيقة أن هجرة الأقلية الأرثوذكسية من أوروبا إلى تونس أقدم بكثير من ذلك التاريخ، ففي عام 1645 قرر البطريرك إيونيكيوس إرسال بابا إلى تونس لرعاية طائفة اليونانيين، وكتب قنصل فرنسا في تونس (بين عامي 1729 و 1734) بواييه دو سان جرفيه، عن استقلالية اليونانيين في تونس "لهم كنيستهم الخاصة بهم داخل المدينة العربية". وهي بالفعل كنيسة سانت أنطوان، وهو ما يؤكده الرحّالة هنري دونان الذي زار تونس عام 1856، وتوقف عند هذه الكنيسة.

بعد مرور أربعة قرون على تلك الوقائع، وبالتحديد في عام 2012، بعد عام واحد من قيام الثورة التونسية، تلقَّى كاهن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في تونس الأب ديمتري نتسفتاتف، تهديدًا من قبل إسلاميين متطرفين، وجرت تغطية الصلبان على واجهة الكنيسة بأكياس القمامة. بل بعد شهر على الثورة قُتِل قَسٌّ بولوني في تونس يدعى مارك ماريوس ريبنسكس، كان يعمل في إحدى المدارس في ضواحي تونس، وتهاطلت بيانات الشجب والتنديد من الأوساط السياسية ومنظمات المجتمع المدني، مذكرة بـ "تناقض الجريمة البشعة مع روح التسامح واحترام حرية المعتقد، التي ميزت التونسيين عبر العصور".

هل حقًّا ميَّز احترامُ حرية المعتقد التونسيين عبر العصور، أم أن هناك انقلابًا على احترام حرية المعتقد؟ مِن أين تأتي كراهية غير المسلم حدّ القتل، والتهديد بالقتل؟ هل غير المسلم معترَف به حقًّا بيننا، أم أنه ادعاء؟

يعيش في تونس اليوم 35 ألف مسيحي (عدد تقريبي مصدره الكنائس في غياب إحصائيات رسمية تحدد تعداد الأقليات الدينية)، من بينهم بروتستانت، وأرثوذوكس، وكاثوليك، وأنجليكان. لكن لا إشارة إلى هذه المجموعة في دستور تونس الجديد الذي كُتب بعد الثورة، والذي ينص كما نصّ الدستور القديم، وفي فصله الأول أيضًا، على أن تونس دولة دينها الإسلام. بل هذا تأكيد على شمولية الإسلام دينًا ودولة، فلا حديث عن الأقليات غير المسلمة رغم وجودها الفعلي، حتى وإن أقر الدستور بحرية المعتقد.

وباستثناء موسم حج اليهود إلى كنيس الغريبة، في جزيرة جربة جنوب تونس، لا نسمع حديثًا سياسيًّا ولا تغطية إعلامية، لقداس المسيحيين في كنائس تونس على اختلاف طوائفهم، رغم تعدد الأعياد والمناسبات الدينية الخاصة بكل طائفة. ولو ابتعدنا عن المشهد التونسي لرأينا مشاهد أخرى عن تهجير المسيحيين من بيوتهم في العراق وسوريا، ومصادرة منازلهم وممتلكاتهم، في مشاهد تعيد للذاكرة البشرية مشاهد تهجير اليهود، ومصادرة بيوتهم وممتلكاتهم إبان الحكم النازي. في مصر حيث يعيش 10 ملايين مسيحي (هذا الرقم يعادل عدد سكان تونس)، يجري تهجير مسيحيين على يد مواطنين آخرين مسلمين، في حوادث تتكرر على مر السنين، وباختلاف الأنظمة الحاكمة.

أين الخلل؟ من أين يأتي هذا العنف والازدراء لهوية الآخر؟ كثيرةٌ المؤتمرات العربية التي أقيمت ورفعت شعارات التعايش بين الأديان. لكن هل تدرجت هذه المؤتمرات بلغة الخطاب عن التعايش، من المفهوم الأكاديمي واللاهوتي، لتنزل إلى الشارع وتعاين الخطاب اليومي بين المسلم وغير المسلم؟

دعوتي المتواضعة إلى حوار إسلامي مسيحي، لا تعني دعوة المسلم إلى اعتناق المسيحية، ولا دعوة المسيحي إلى اعتناق الإسلام، فلطالما طُبعت دعوات الحوار باتهامات "التبشير المسيحي"، أو "الدعوِي الإسلامي".

الحقيقة أن هويتي الدينية تكتمل بفهم هوية الآخر، ووضْع يدي بيده لخدمة الإنسانية. فتلك المساجد والكنائس التي يذكر فيها اسم الله، تستحق نظرة أعمق من السائد اليوم. يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: {كانَ الناسُ أمةً واحدةً فبعثَ اللهُ النبيينَ مُبشِّرينَ ومُنذرينَ وأنزلَ معهم الكتابَ بالحقِّ ليحكمَ بينَ الناسِ فيما اختلفوا فيهِ وما اختلفَ فيهِ إلَّا الذينَ أوتوهُ من بعدِ ما جاءتهمُ البيِّناتُ بغيًا بينهم} [البقرة: 213].

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive