الرجوع

القُدس: لِمن تُقرع الأجراس؟

الإثنين

م ٢٠١٧/١٢/٢٥ |

هـ ١٤٣٩/٠٤/٠٧

في القدس حيث التاريخ أكبر من الجغرافيا، تتصارع الروايات التاريخية عن الآخر، بين مُحتلّ يستند إلى رواية لتبرير الاحتلال، وشعب محتل هُجّر وسُلبت بيوته، ولم يقدر بسبب اختلال موازين القوى على فرض روايته، واسترجاع أرضه.

لم تعُدْ قضية القدس إلى الواجهة بسبب قرار ترامب إعلان المدينة عاصمة لإسرائيل، فالحقيقة أن القدس لم تغادر واجهة الأحداث، لكن القرار زاد من كشف أغوار الصراع، وعقّد كل الحلول الهشة التي كانت مطروحة لإحلال السلام.

سبعون عامًا وقضية القدس حاضرة في الذاكرة الجماعية لمعظم العرب، بوصفها أرضًا محتلة، رغم محاولات طمس الصراع العربي الإسرائيلي اليوم، وتحويله إلى صراع فلسطيني إسرائيلي، وإلى "قضية محلية تهمُّ الفلسطينيين فقط".

حسب علماء الآثار، يعود تاريخ مدينة القدس إلى حوالي ستة آلاف سنة، مثلما تثبته الحفريات الفرنسية والبريطانية، لكن الاحتلال الصهيوني يروِّج لروايات عدة تقول إن القدس أصبحت عاصمة لمملكة إسرائيل سنة 1003 قبل الميلاد في عهد الملك داود، و"اليهود هم شعب الله المختار"، و"داود أول من بنَى القدس واتخذها عاصمة لملكه"، و"لليهود حق تاريخي في فلسطين"، و"العبرانيون هم أول من سكن فلسطين"، و"فلسطين كانت أرضًا صحراء".. إلخ من الروايات.

استنباط الرواية التاريخية وتلبيسها عباءة الدين، كان ركيزة أساسية لاحتلال القدس، وقد استعانت سلطات الاحتلال بالحاخامات لإصدار "فتاوي دينية" تبيح قتل العرب؛ لبسط السيطرة على المدينة، وإعدام الوجود العربي فيها. وقد شكلت الرواية التاريخية من مصدرها الإسرائيلي فقط، ركيزة استند إليها ترامب ليمنح قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، نافيًا بذلك حق الفلسطينيين فيها.

قد يصعب علينا نحن العرب: مسلمين، ومسيحيين، ولا دِينيِّين، أن نكون لا عاطفيين في تناول قضية القدس. لكن، أليس الحياد في قضية صراع غير متكافئ، هو نوع من التواطؤ؟ بماذا نفسر اصطفاف المجتمع الدولي بأغلبية ساحقة يوم

الخميس 21 ديسمبر 2017 خلف فلسطين، رافضًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار ترامب إعلان القدس عاصمة لإسرائيل؟ هل هذا قرار عاطفي، أم هو اصطفاف متأخر خلف الحق في وجه الباطل؟ أليس هذا التصويت رفضًا علنيًّا لسيادة رواية تاريخية إسرائيلية، تدَّعي حقها الوحيد في المدينة المقدسة التي كانت في يوم ما راعية لجميع الأديان السماوية؟

تهويد القدس ليس قضية فلسطينية فحسْب، بل قضية أخلاقية وإنسانية تهمُّ ضمير العالم بشكل مباشر. ولا أرى مدعاة للخجل من نصرة الحق الفلسطيني في القدس، فمحاولة التملص من التضامن مع الحق الفلسطيني بحجة "أولوية صراعات أخرى في المنطقة"، هي سقوط أخلاقي، وتواطؤ مع المحتل، بل وتشجيعٌ على مزيد من التصعيد في الأراضي المحتلة، بإغلاق جميع منافذ حلول التعايش السلمي، وفتحِ منفذ واحد لن يكون سلميًّا على الإطلاق.

لطالما اتُّهمَت المقاومة الفلسطينية المسلحة بأنها "متطرفة وإرهابية"؛ لأنها تحاول في ظل اختلال موازين القوى العسكرية والسياسية والدعم الدولي، تغييرَ الواقع الذي يفرضه الاحتلال على المحتل علمًا أن الخسائر البشرية والمادية التي يتسبب بها الإسرائيليون لا تقارن البتّة بتلك التي يحدثها الفلسطينيون في مقاومتهم.

فهل كانت حركات المقاومة الوطنية في أوروبا ضد الاحتلالين الفاشي والنازي "حركات متطرفة وإرهابية"؟ هي التي استخدمت التفجيرات والعمليات الانتحارية والاغتيالات، كوسائل دفاع، تُحيي ذكراها سنويًّا القوى الأوروبية في احتفالات حاشدة، أم أن مقاومة الاحتلال مشرَّعة في الغرب، ومحرَّمة في الشرق؟

يبدو أن هذا الغرب قد استوعب أن عدم إنصاف القضية الفلسطينية على أرضها، هو استدعاء لإنصاف القضية على أراضٍ أخرى في الغرب بالأساس، حيث تعيش جاليات عربية وإسلامية كبيرة بأجيالها الأربعة، تُتابع كيف يُكال بسياسة المكيالَين، غير بعيد عن استقطاب الجماعات المتطرفة لشباب مندفع، مشتَّتِ الانتماء بين الدولة الأم والدولة الحاضنة، ومُتابعٍ لتطورات نزاع غير متكافئ في القدس.

القدس، تلك المدينة التي تستمد قداستها لا فقط من اسمها ورمزيتها الدينية بالنسبة إلى الديانات الإبراهيمية، بل أيضًا من رمزها النضالي ضد الاحتلال، تقاوم اليوم محاولات تهويدها، ومحاولات طمس تعددها الثقافي والديني والإثني، الذي شكَّل هويتها المتعددة لقرون.

القدس اليوم محاصرة بالترسانة العسكرية، والخرافة الدينية المشوهة، والكره الأعمى الذي يلتهم التاريخ والجغرافيا معًا، لكنها تتطلع إلى أن تكون طليقة في يوم ما.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive