الرجوع

الله وأفعال الموت

الثلاثاء

م ٢٠١٧/٠٥/٠٢ |

هـ ١٤٣٨/٠٨/٠٦

لـ"الحوار بين الأديان" وقعٌ داهس لذهني، ولـ"التعايش بين المكونات الدينية والعقائدية" أثر محبط لفكري، ولـ"رسالة صداقة ورمز محبة" وقع مُهَبّط لعقلي، ولـ"زرع المحبة ونشر السلام وتجذير الوئام" تأثير يجبر عيني على الإغلاق، ويدخل دماغي في حالة من الخمول والسكون (وفي أقوال أخرى الوجوم)، ويجبر دقات قلبي على التريُّث وتدبُّر سمة المرحلة الأولى من مراحل النوم والسبات. قيمة ثرية معتبرة كانت تحظى بها تلك العبارات والكلمات، ومعانٍ عميقة أصلية كانت تعني الكثير والكثير، إلا أنها تحولت إلى ما يشبه الفقرات سابقة التعليب في نشرات الأخبار العربية، حيث قابل الزعيم زعيمًا آخر، وتناقشا في العلاقات الثنائية، وتبادلا وجهات النظر، وتطرقا إلى سبل توطيد الصلة بين البلدين الحبيبين، والشعبين الشقيقين.

سقط أثرُ حوارات السياسة الموطِّدة للعلاقات، والمجذِّرة للأخوَّة، وبعدها -وربما معها- تهاوت مصداقية حوارات الأديان والحضارات والكيانات. والأسباب معروفة، إن لم تكن في الخبر العاجل الراكض أسفل الشاشة، والمنبئ بموت مئات هنا، وتفخيخ عشرات هناك، وتهجير وتشريد وتجويع ملايين هنا وهناك؛ فليس عليك سوى فتح باب البيت والنظر إلى ما يحدث على عتبته.

وبينما نحن على أعتاب فقدان للعقل، ومصرع للمنطق، وضياع للأمل في أن تخرج المنطقة الموبوءة بصراعاتها الطائفية، والمنكوبة بمشاحناتها وتناحراتها واقتتالاتها، التي لا ترتدي سوى زي "الله"، حيث أطرافُ النقيض الناحرون لبعضهم بعضًا، يرفع كلٌّ منهم اسم "الله" قبل القتل والقهر والتعذيب والإقصاء والرفض، وأثناءها، وبعدها- إذْ بقلب القاهرة يضيء بوميض من نور وبصيص من أمل، وإذ بكلمات فقدت معانيها، وعبارات انتحرت، تعود إليها القيمة وتسترد الأنفاس:

"لا يمكن الجمع بين الإيمان الحقيقي، والعنف الأعمى ... الناتج عن .. الرغبة الجامحة للسلطة، وتجارة السلاح، والمشكلات الاجتماعية الخطيرة، والتطرف الديني الذي يستخدم اسم الله القدوس لارتكاب مجازر ومظالم مريعة".

"التنمية والازدهار والسلام ... غايات ... تتطلب الاحترام غير المشروط لحقوق الإنسان غير القابلة للمساومة: المساواة، حرية الدين والتعبير دون أدنى تمييز".

 "لا يمكن بناء الحضارة دون التبرُّؤ من أية أيديولوجية للشر والعنف، ومن كل تفسير متطرف يرمي إلى إلغاء الآخر وإبادة التنوع، عن طريق التلاعب باسم الله القدوس".

"الله خالق السموات والأرض ليس في حاجة إلى حماية من البشر. بل العكس، هو الذي يحميهم. وهو لا يرغب مطلقًا في موت أبنائه، بل في حياتهم وسعادتهم".

"الإله الحقيقي يدعو للمحبة غير المشروطة، وللمغفرة المجانية، وللرحمة وللاحترام المطلق لكل حياة، وللأخوَّة بين أبنائه، مؤمنين كانوا أو غير مؤمنين".

يا ألله! أين كانت كلمات بابا الفاتيكان "البابا فرنسيس"، التي ليست هي كالكلمات بحق؟ في خضمِّ عداد الموتى الذي لم يعد يرهب، ورائحة الدم التي لم تعد تزكم الأنوف، وخارطة الشرق الأوسط التي تُزلزل كيان الكوكب، وتُحلحل حياة البرية، وتعيد كتابة مواثيق حقوق الإنسان بدماء العباد- تأتي زيارة بابا الفاتيكان وكلماته، التي طبطب بها على قلوب الملتاعين من القتل باسم الله، وعقول المُتعبين ممن أوشكوا على نبذ الإيمان بالحق والخير والجمال.

في أزمنة الجنون، وعهود المجون، يحتاج الناس إلى من يعيد توكيد معاني الحياة، وبديهيات الوجود. في حين نحن غارقون تمامًا في محاولات عتيدة، تبذلها فرق عديدة، لإعلان المنطقة خالية إلا منهم، وتطهير المنطقة تطهيرًا لم يعد قائمًا على الدين أو العرق أو اللون، بل على انتقاء التابعين لهذه الجماعة، والمنتمين إلى تلك الإمارة، والممتثلين لهذه العقيدة المنبثقة من عقيدة أخرى، أو المنشقة عنها، أو المتمسحة بتلابيبها مع القضاء على الآخرين، أو نبذهم وقهرهم وتهجيرهم؛ لأن التعدد ممنوع، والتنوع مكروه، والاختلاف لا يمحيه إلا الفناء، بسفك الدماء، وتفجير الأبدان، وتفخيخ العباد، إعلاء لكلمة الله، وابتغاء للآخرة التي هي أيضًا في عُرفهم آخرة لا تحوي سواهم!

وإعلاء لكلمة الله فعليًّا، ومن قلب القاهرة، قال البابا فرنسيس: "علينا واجب، وهو فضح باعة أوهام الآخرة، الذين يعظون بالكراهية كي يسرقوا من البسطاء حياتهم الحاضرة ... ويحولوهم إلى وقود حرب، حارمين إياهم من أن يؤمنوا بمسؤولية، ويختاروا بحرية". قال رئيس مصر "عبد الفتاح السيسي" للبابا إن "الرب هو رب الحرية"، فردَّ البابا أن هذه حقيقة. "لا يمكن الجمع بين الله وأفعال الموت"! عاد قدْرٌ من المنطق، في منطقة فقدت منطقها.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive