الرجوع

اليقين وإسقاط التكليف

الثلاثاء

م ٢٠١٨/٠٥/٢٩ |

هـ ١٤٣٩/٠٩/١٥

العبادة هي معراج يرتقي فيه المؤمن، ابتغاء معرفة الله ومحبته. وقد نصَّ القرآن على أن غاية العبادة هي التقوى، والتقوى تبدأ من خوف الله واجتناب سخطه "تَقوَى الله"، وتنتهي بمعناها الأعمق، عندما يكون الله وقاية للمؤمن من كل شيء "الاتِّقاء بالله". ومن كان الله تَقوَاه، كان سمعَه وبصرَه ويده. فغاية التقوى هي بلوغ اليقين، وحقيقةُ اليقين هي معرفة الله ومحبته.

بعيدًا عن التفسير الشائع بين عموم المفسرين، والذي يفسِّر اليقين في قوله تعالى: {واعبُد ربَّك حتَّىٰ يأتيكَ اليَقينُ} [الحِجر: 99] بأنه الموت، يمكن القول بأن هذا التفسير لا يَتَّسق ولسانَ العرب، بل ويخالف الاستعمال القرآني للكلمة، والذي يفيد معاني: الثبات، والتحقُّق، والوضوح، والطمأنينة. ولعل التفسير الأمثل للآية القرآنية يتجلَّى في حديث العرفان، الذي يقول فيه الله على لسان نبيه: "ما يزالُ عَبدِي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافلِ حتَّى أُحبَّهُ، فإِذا أَحبَبتُهُ كنتُ سمعهُ الَّذي يسمعُ بهِ، وبصرَهُ الَّذي يُبصرُ بهِ، ويدَهُ الَّتي يبطِشُ بِهَا، ورِجلَهُ الَّتي يَمشِي بهَا، وإِنْ سألنِي لأُعطينَّهُ، ولئِنِ استعَاذَنِي لأُعيذنَّهُ" (البخاري). فالغاية القصوى للعبادات هي بلوغ محبة الله، والتيقُّن بمعرفته كما يعرف الإنسانُ نفسه. والغريب أن المفسرين لم يتعرَّضوا لهذا الحديث لدى تفسيرهم للآية!

كذلك يتجلَّى معنى اليقين، في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يسأل اللهَ فيه أن يهَبَهُ من اليقين ما يُهَوِّنُ به عليه مصائب الدنيا: "وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصائب الدُّنْيَا" (الترمذي). فكيف يسأل النبي ربه أن يهوِّن عليه مصائب الدنيا، و"الموت" هو أعظم تلك المصائب؟! فالغاية من اليقين هي تحمُّل مصاعب الحياة ومَشاقِّها، وليس الهروب من المصاعب بالموت.

لا يمنع السعي إلى التقوى والارتقاء في مراتب الحقائق العرفانية، من إجلال الشرائع وتعظيمها. فالشريعة وشعائرها، والحقيقة ويقينها، جميعها تصدر من مِشْكاة واحدة: {ذلكَ ومَن يُعظِّم شعَائرَ اللَّه فإنَّهَا مِن تقوَى القلُوبِ} [الحج: 32]. ولو كان لأحدٍ أن يستعلي على شرائع التكليف بِدَعوى بلوغ العرفان والشهود، لكان ذلك لرسول الله وخاتم النبيِّين. ولعلَّ فَرْض الصلاة على الحبيب حيث كان {قابَ قَوسَينِ أو أدنَى}، فيه أبلغُ دليل على أن مُعاينة اليقين والشهود، لا تَزيدُ العابد إلَّا عشقًا للعبادة. فالعابد العارف ينتقل من عبادة التكليف والتزكية، إلى عبادة الشكر والمحبة، ولا يخرج بحال عن دائرة العبادة.

يؤكد القرآن أن وجود الشرائع على اختلاف أشكالها، قد جاء لتحقيق الغايات التي من أجلها جاءت الرسالات، ثم إنه يجعل التسابق بالخيرات بين أتباع الشرائع، مُتَّسِقًا وما أودعه الله في بواطن تلك الشرائع من حقائق وغايات.

يصرِّح ابن كثير في تفسيره، بالسبب الذي جعله يرفض أن يكون المقصود باليقين هو معرفة الله، وهو أنه يرى فيه قولًا للمَلاحِدة الذين يسعون لإسقاط التكليف. لكنَّ رفض مقولة إسقاط التكليف والشرائع، لا يبرِّر إسقاط المعاني الجوهرية لليقين، التي تجلَّت في أعظم صورها في تلك الآية.

يمكننا القول بأن الفكر التفسيري الإسلامي، قد تأثَّر بالتجربة المسيحية من حيث علاقتها بالشريعة اليهودية، حسبما جاء في قول المسيح عليه السلام: "لَا تظنُّوا أنِّي جئتُ لِأَنقُضَ النّامُوسَ أو الأنبياءَ. ما جئتُ لأَنقُضَ بل لأكمِّلَ" (متَّى 5: 17). فالمسيح لم ينقض شريعة موسى التي تحرِّم القتل، وإنما أكمَلَها بتعميق الشريعة الأخلاقية عندما قال: "قَد سَمعتُم أنَّهُ قيلَ للقُدمَاء: لَا تقتُل، ومَن قتَل يكُونُ مُستَوجِبَ الحُكمِ. وأَمَّا أنَا فأَقولُ لكُم: إنَّ كلَّ مَن يَغضَبُ علَى أخيهِ باطِلًا يكُونُ مُستَوجبَ الحُكمِ" (متَّى 5 :21 -22). فالمطلوب هو إكمال الشريعة بالقيم الأخلاقية والروحية، وليس نقض الشريعة باسم الحقيقة.

وكما أن الخلاص في المسيح كان بِعشق الروح لا بِحدِّ الحَرف، فهكذا أراد بعض المسلمين أن يكون لِلمسلمين "عهدهم الجديد"، الذي تُطوَى فيه شريعةُ المصطفى، تَبَعًا لِظنِّهم أن المسيح قد طوَى شريعة موسى. لكن الخشية من إسقاط الشرائع، لا تبرِّر تأليه الشرائع وجعْلَها مطلوبة لذاتها، دون الغاية التي جاءت من أجلها. وكما أن الإنسان ليس له من صَلاته إلَّا ما عَقَل منها، فهكذا كل عبادة، ليس للإنسان منها سوى ما خلص إليه قلبُه، من معرفة الله ومحبّتِه.

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive