الرجوع

بقعة ضوء في الظلام السوري

الأربعاء

م ٢٠١٧/٠٨/١٦ |

هـ ١٤٣٨/١١/٢٤

تبدو مقولات اللاطائفية والعيش معًا مألوفة لدى الشعب السوري قبل سنوات، وهو الشعب الذي يبدو للناظر من بعيد أنه قد عاش لعقود بسلام على تنوع مكوناته الدينية والإثنية، لتأتي السنوات الأخيرة وتخرب هذا السلام، وتزرع الطائفية والفوارق بين أبناء الشعب الواحد.

هذه المقولات صدرت وما زالت تصدر عن أبناء الشعب نفسه، وعن أبناء شعوب مجاورة وبعيدة جغرافيًّا، وترى فيما هو حاصل ومستمر منذ أكثر من ست سنوات كارثةً كلُّ جوانبها سلبية وسيئة، هجَّرت المواطنين من منازلهم، نازحين داخل بلدهم، ولاجئين خارجه.

لكن لمواطنين سوريين آخرين رأي مخالف، يرى أن هذه المقولات قد تبدو صحيحة في الظاهر، لكنها غير دقيقة في العمق، وأن المأساة السورية المستمرة -على بشاعتها- تحمل جوانب صحية أو ربما إيجابية.

مدينة كحلب، أولى المدن بعد العاصمة دمشق، والعاصمة الاقتصادية لسورية، شهدت حراكًا مدنيًّا فصراعًا مسلحًا قسم المدينة قسمين لسنوات طويلة، لقي خلالها الألوف مصرعهم ودُمِّرت مبانٍ تكاد لا تعد ولا تحصى، ولكن هل صحيح أن الأمر كان "سمنًا على عسل" قبل ما جرى؟

ابن المدينة يعرف أن أبناءها عاشوا معًا، متجاورين، لكن الاحتكاك الفعلي والتفاعل الجدِّي كان في حدِّه الأدنى لدى شرائح واسعة من مكونات عديدة من مكونات الشعب، فللأكراد مناطقهم، وللأرمن أحياؤهم، وللمسيحيين شوارعهم... إلخ. حتى المدارس والنوادي الرياضية والمنظمات الكشفية كانت موزعة على نحو شبه كامل بين الطوائف والإثنيات، فهنا مدرسة للأرمن، وهناك نادٍ للمسلمين، وأيضًا نادٍ محسوب على الأكراد!

ورغم تعاظم المشاعر السلبية بين أبناء الشعب الواحد، إلا أن حركة النزوح الداخلية، وحركة اللجوء الخارجية، جمعَتَا مكونات لم تكن لتجتمع من قبل في تفاصيل الحياة اليومية، فالمبنى السكني الذي كان يضم فقط عائلات عربية مسيحية في شارع كل مبانيه على المثال عينه، بات يضم أيضًا عائلات كردية مسلمة على سبيل المثال.

أمي المسيحية التي استاءت في البداية من مجاورة مسلمين نازحين لها في المبنى، باتت لا تستغني عن مساعدة جارتها الجديدة أم عبدو في تحضير "الكبة"؛ أما بنات أم عبدو فيقصدْن أمي ليسألنها نصيحة!

وأيضًا في دول الملجأ المجاورة كلبنان وتركيا، شكلت منظمات المجتمع المدني السوري الناشئة فرصة لأجيال كاملة من الشباب، لأنْ يعملوا ويعيشوا معًا في كسرٍ لحواجز واعتبارات مجتمعية كانت لِتَحُول بينهم في مجتمعاتهم الأصلية. فالهمّ المشترك، همّ اللجوء وهمّ مساعدة اللاجئين الذين هم أكثر ضعفًا، وحّد المتفرقين، وأزال كمًّا هائلًا من الأفكار السابقة.

نعم! كان الأمر بهذه البساطة، أن يُترك الناس ليحيوا معًا ويعيشوا اختبارات يومية مشتركة، هذه هي الوصفة الأولية البسيطة لإزالة مشاعر سلبية وأفكار سابقة، مثقلة بإرث عقود وقرون من الانعزال والجهل بالآخر. هل كانت فرص اللقاء هذه كلها ذات نتائج إيجابية؟ بالطبع لا، هناك لقاءات ساهمت أحيانًا في تعظيم الهوّة بين المتلاقين، ربما لعلّةٍ في الأشخاص أو الظروف، لكن ما يبقى -وهو ليس بقليل- كافٍ تمامًا ليعوَّل عليه كبداية في نشوء جيل قادر على تجاوز إرث ثقيل، منطلق بروح منفتحة نحو الآخر.

الاختلاط وكسر الحواجز هذا، أثمر أعمالًا تطوعية واسعة، وشراكات تجارية ناجحة، و... زيجات! لم يعد الاختلاف الإثني أو الديني عائقًا في ذهنيات الشباب أمام الحب وتأسيس عائلة معًا. الأمر الأهم في ما حصل بغضِّ النظر عن تجلياته المادية هو زوال أو تراجع الخوف من الآخر، فالآخر لم يعد مجهولًا، العيش معًا حوّل من كان مجهولًا إلى معروف، ومن كان مختلفًا إلى ندّ.

إذن، هل "سورية بخير"؟ بالطبع لا، لا يمكن لبلد مات ويموت فيه مئات الألوف، وغادر نصف شعبه منازله مجبرًا، والكلمة العليا فيه ما زالت للأسلحة والقنابل أن يكون بخير، ولكن رغم صعوبة الحال وقتامة الأفق، لا يضير الالتفات إلى بقعة ضوء حقيقية في خضمِّ ظلام حالك، ولفْت النظر إليها، والسعي إلى تنميتها ودفعها نحو الأمام.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive