الرجوع

تكريهُ الناس الديمقراطيةَ وضربُ التعددية

الأربعاء

م ٢٠١٨/٠٢/٢٨ |

هـ ١٤٣٩/٠٦/١٣

 

منذ اندلاع أحداث الربيع العربي، دأبت العديد من الأنظمة في استخدام الوسائل التي جاءت بها النظم الديمقراطية، كالبرلمان، والانتخابات، وتكوين جمعيات باسم حقوق الإنسان، والمجتمع المدني؛ من أجل شرعنة أبشع ما تنتجه النظم الدكتاتورية من خنق للحريات، وقمعٍ واتهامات وعقوبات توزَّع بالجملة على غير المرغوب فيهم سياسيًّا.

هذا الاستخدام المقلوب لممارسات تَتَّخذ شكل الديمقراطية، وتَستبطن كل ما يعاديها ويعادي التعددية، يُستهدف منه تكريهُ الناسِ الديمقراطيةَ، وتَيئِيسُهم من إمكانية حدوث الإصلاح السياسي. وفي مثل هذه البيئة، ينقلب الحديث بالتعددية والأقلية والأغلبية داخل المجتمعات، إلى حديث يأخذ أبعادًا ومُجْرَيات مختلفة.

الأقلية والأغلبية ليستا عَيبَيْن، إن كانتا ترتبطان بآراء سياسية متحركة مع الزمن، ومِن ثَمَّ فإن هذه الأغلبية قد تصبح أقلية إن جرى تَوافُق في إقناع الناخبين مثلًا، والدول التي أنقذت نفسها من الاختلافات القاتلة، هي التي تمكنت فيها النُّخَب السياسية من الاتفاق على أطر تنافسية سلمية، ضمن نظام وطني دستوري.

أما الدول التي تتشكل فيها الأقلية أو الأكثرية بحسب انتماءاتها الإثنية أو المناطقية أو الدينية، فيمكن لنُخَبها تحقيق عملية سلمية عبر "التوافقية"، كما هو الحال في بلجيكا أو سويسرا، وهو الأنموذج الذي سارت عليه دول أخرى مثل لبنان والعراق، ولو أنها أقلُّ فاعلية من غيرها. وأما في دول أخرى قاومت الإصلاح، فبحسب الرأي السياسي أو بحسب التوافقية، ترى أن التعددية ليس مسموحًا بها، لأن الأنظمة في تلك الدول قائمة على أساس الاستفراد الدائم بالقرارَين السياسي والاقتصادي، والحرمان الدائم لكثير من فئات المجتمع. لذا، فإن هذه الدول قد تطرح مفاهيمَ تعدديةِ الأديان وتعايُشِها، وتَسامُحِ الفئات، كنوع من الديكور لإخفاء سياسات إلغاء التعددية السياسية، ومنع نشوء نهج توافقي، وذلك من أجل تثبيت الهيمنة المطلقة على مواقع صنع القرار.

ولكن، هذه النماذج لا تستطيع تحقيق الاستقرار؛ لأنها لا تفسح المجال لمناخ سياسي بقدْر سليم. ولذلك، فإنها تسعى على الدوام إلى ضرب التعددية، من خلال الارتكاز على بث خطابات الكراهية، وتفريغ العمل السياسي من معانيه السامية.

إن البلدان التي تعاني احتقاناتٍ تتعلق بالعدالة في توزيع السلطة والثروة، ترتبط مشاكلها بعدم إفساح المجال لمشاركة المكونات الاجتماعية، لتطوير عملية سياسية ديمقراطية، تسمو فوق الولاءات القبلية والمذهبية والعرقية.

وتكاد تكون الدول العربية كلها تعاني مشاكل في هذا المجال، إذ تعيش الكثير من المكونات الاجتماعية المختلفة منذ قرون، أزمة حقيقية في خلق ديمقراطية، إضافة إلى القدرة على بناء دولة المواطنة البعيدة عن الولاءات القبلية والمذهبية والعرقية.

للأسف، لم يتعلم العالم العربي من الحرب الأهلية في لبنان، وظلت الفئات الحاكمة سواء أقليةً كانت أم غالبية، تمارس القمع وتكميم الأفواه ضد المكونات الاجتماعية الأخرى لسنوات طويلة، وأيضًا تحاول تزوير الحقائق الديموغرافية وتضليل الرأي العام، من خلال إعطاء العالم الخارجي صورة مغلوطة عن مكونات التركيبة السكانية، عبْر تصوير الجماعات المحتجة على أنها أقلية، رغم أنها في الواقع تمثل غالبية، وهناك أمثلة كثيرة في أكثر من بلد عربي.

هناك من يزعم أن الاحتقانات العرقية والطائفية التي تعانيها أغلب دول المشرق العربي، لم تكن موجودة قبل العام 2011، أو قبل حدثٍ سياسي معين، لكنها في الواقع احتقانات ذات جذور عميقة، ولها تراكمات تاريخية توارثتها الأجيال، ويجري استثارتها وتوجيهها بما يخدم المنهج الاستبدادي، الذي يَحرِم البلدانَ تطويرَ ممارساتها السياسية إلى مستوى يمنع من تقسيم المجتمعات، ويحدُّ من انفجار الثورات والاحتجاجات والحروب.

 

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive