الرجوع

“ديستوبيا” العقيدة الواحدة

الثلاثاء

م ٢٠١٧/٠٤/١٨ |

هـ ١٤٣٨/٠٧/٢٢

النقطة الفارقة، كانت في مثل هذه الأيام قبل سنوات. فمجموعة الصديقات الأربعينيات اللاتي جمعهن صف دراسي واحد، في مدرسة للراهبات على مدار 14 عامًا، الْتَقَيْن مجددًا على "فايسبوك". صرن حزبًا اجتماعيًّا يقدم الدعم النفسي للمحبطات، والترفيه المعنوي للمكتئبات، والنصيحة الأمينة للحائرات، والتكافل المادي للمحتاجات، والملتقى اليومي للجميع. ظلت هذه القوة الضاربة مثالًا يُحتذى، وحلمًا يُبتغى، حيث لا أيديولوجيا تهدم اللذة، ولا سياسة تُفرّق الجماعة، ولا دين دون غيره يعلن السطوة.

وفي مناسبة عيد القيامة المجيد، وشمِّ النسيم المصري الأصيل، ودون سابق إنذار، وبينما الجميع يتبادل التهاني، خرجت إحداهن -وهي ضمن أكثرهنّ شعبية وتفاعلية- بـ"بوست" ضرَب الصفحة في مقتل. كتبت إن "الله يعلم مدى حبي لشقيقات الطفولة، ويعلم الله أن قلبي ينفطر لمجرد التفكير في مصير من يحتفلن بهذه المناسبة (القيامة)، التي يستحيل أن أوجه لهن معايدة فيها. وأدعوكن من قلبي أن تراجعن هذه الجزئية في عقيدتكن، ويعلم الله أن ذلك بدافع حبي وحرصي على مصائركن، في يوم لا ينفع فيه ندم. أحبكن في الله"!

يومها ذهبت الصفحة إلى غير رجعة، بعدما انقسمت فئتين غير متساويتين: أغلبية مطلقة صمتت تمامًا، بين رافضات غاضبات لما كتبت، في محاولة ضحلة لتغيير عقيدة، ومُوافِقاتٍ مثمِّنات لما كتبت، ولكن بحذر سببه الحرج؛ وأقلية ضئيلة تمثلت بِردٍّ كتبَته "مُسلمة"، قوامه: "هذه معايدة ينطبق عليها المثل القائل: «قِلتها أحسن». العقائد لا تتغير بتدوينات، والعلاقات لا تسيِّرها أيديولوجيات، والفتنة -وإن كانت لفظية- أشد من القتل". قتلت التدوينةُ الهادفة إلى تغيير العقيدة، علاقةً إنسانية دامت عقودًا، لكنها في الوقت نفسه أزاحت ستارًا أٌسدل بعناية، لإخفاء البركان المحموم من التديين المغلوط، الدائرة رحاه على مدار نحو أربعة عقود.

قطار التديين المغلوط -وهو قطار سياسي اقتصادي اجتماعي قبل أن يكون دينيًّا-، يبدأ بتصور فوقية الأنا لأنها ولدت لأسرة تنتمي إلى عقيدة ما، ودونية الآخرين لأنهم أبناء عقيدة مغايرة. وتتراوح محطاته الكثيرة بين "الرفض اللذيذ" للآخر، حيث عدم الممانعة في مصادقته، لكنها تبقى صداقة مشوبة بالحذر، وكأنّ اختلاف العقيدة فيروس قابل للانتشار بالعدوى؛ والممانعة في المصادقة، مع الحفاظ على هامش متحفظ من "الود على بُعد". وتتمثل هذه المحطة على سبيل المثال لا الحصر، بتعليمات مشدَّدة للصغار بعدم الشرب من ماء الآخر، وعدم الانخراط في اللعب معه. وحين يسأل الصغير عن السبب، يخبره الأهل بلهجة حاسمة، بالسبب الذي ينبغي أن يبقى سرًّا بينهما "لأنه كافر، وهيروح النار".

وتتواتر المحطات سريعًا، حيث رَفْض تسمية قتلاه بالشهداء، والاعتراض على الوقوف دقيقة حداد على مغدوريه، والامتناع عن الدعاء بالشفاء لمصابيه. ومنها إلى محطة منع الآخر من بناء مكان للعبادة، والإصابة بهلع لدى رؤيته يصلي، والشعور بالخطر لدى سماع كلمات من كتابه المقدس. و"يا ليله، يا سواد ليله" إن أدار صلاته أو أدعيته من مذياع سيارته، وفتح النافذة، وكأنّ الكلمات تصيب من يسمعها بجائحة الخروج عن الملة، أو طاعون التحول عن العقيدة.

وتنضح نشرات أخبارنا ومجريات أمورنا وتفاصيل أيامنا الآنية، بهوية المحطة قبل الأخيرة، حيث التفجير ابتغاءً لِلجنَّة، والتفخيخ مرضاة لله، والتطهير العقائدي تحقيقًا لـ "ديستوبيا" (عالم الواقع المرير)، والتي تهيئ الهلاوس الفكرية والوساوس الأيديولوجية لأصحابها. إنها "يوتوبيا" مدينة العقيدة الواحدة الفاضلة.

وفي حين نحن منتظرون مكتوفي الأيدي، صُمَّ الآذان، محجوبي الرؤية، مَغشيِّي البصر، مفلسي البصيرة وصول القطار محطته الأخيرة، حيث "أرماغادون" حقيقية. وقتها لن نجلس بعبوة فشار ومشروب صودا، لمتابعة بروس ويليس، وبن أفليك، وليف تايلر، يحفرون حفْرًا عميقًا وهم يحاولون إيقاف اصطدام كوكب عملاق بالأرض، ولكننا سنكون نحفر قبورنا لمن حولنا، انتظارًا لدورنا.

دورنا الحقيقي اليوم لمنع اكتمال هذا السيناريو الذي بدأ بالفعل، هو اختيار مرآة مستوية لنقف أمامها، وندقق النظر دون كذب بغرض التجميل، أو رياء هدفه التجهيل. فماذا نرى؟ إن رأينا حالًا معوجًّا يتطلب الإصلاح ويحتم الجراحة، فلنفعل، حيث الكوكب يتسع للجميع، والدين -أيّ دين- لا يرفع راية التطهير بالتفجير. أمَّا إن رأينا وجوها سمحة، وعيونًا فرحة، ومشاهد خلابة، وعقيدة واحدة لا ثاني لها، فحتمًا علينا شراء الفشار وشرب الصودا، انتظارًا للاصطدام الكبير.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive