الرجوع

روسو يسير على رأسه عندنا

الجمعة

م ٢٠١٧/١٠/٢٧ |

هـ ١٤٣٩/٠٢/٠٧

 

إنّ استقرار الأوطان هو من صلابة العَقد الاجتماعي الذي يجمع بين أبنائها ويجعل منهم شعبًا واحدًا. وكلّما ضعف هذا العقد الاجتماعي، أصبحت المجتمعات عرضة للاهتزاز، والتفتّت، وتَحوُّل التنافس السياسي في السلطة إلى صراعات داخليّة وحروب أهليّة. لقد قدّم جان-جاك روسو للبشريّة وللحضارة الإنسانيّة كتابه الشهير: "في العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي"، الذي نشره في فرنسا سنة 1762، ولا يزال هذا الكتاب يقدّم رؤية فلسفية واضحة لبناء الاجتماع السياسي.

يقول روسو إنّ العقد الاجتماعي هو الذي يُنتج شعبًا، عبر تخطّي الازدواجية التي تضع الشعب في مواجهة السلطة السياسية. فبالنسبة إليه، على العكس تمامًا، ينتقل الناس من حالتهم الطبيعية إلى حالتهم المدنية، عندما يتبنّون مبدأ السلطة السياسية القائمة على أساس العقد الاجتماعي؛ فلا تُعدُّ بذلك السلطة السياسية عنفًا يُمارَس على الشعب، بل علّة وجود هذا الشعب. فالعقد الاجتماعي يعتبر أنّ حاجة كل فرد من الأفراد، هي أكبر مما يستطيع أن يوفِّره كل فرد لذاته. ولتأمين هذه الحاجات يجب إذًا الاتحاد والعمل بانسجام، وهكذا يولد "الجسم السياسي" للشعب، وينتقل الأفراد إلى حالتهم "المدنيّة" كمواطنين في جمهورية. ومن اللافت أنّ روسو استعمل في هذا السياق مصطلح "الدولة المدنية" (l’Etat civil)، الذي أصبح استعماله رائجًا في السياق العربي الراهن. فمن الأهمية بمكان العودة إلى أساس هذا المصطلح، الذي لم يقصد أولًا هوية الدولة وشكل علاقتها بالدين، بل عنَى هويّة المواطنين الذين ينتقلون إلى حالة المدنيّة ويصبحون شعبًا واحدًا عبر عقدهم الاجتماعي، الذي يهدف إلى تحقيق مصلحتهم المشتركة والخير العام.

لقد تشكّلت الدول الحديثة على هذا الأساس، فأصبحت "المدنيّة" نمطًا من الوجود الإنساني، وبُعدًا أخلاقيًّا للحياة الاجتماعية المؤسّسة على الترابط المُنظّم بين الأفراد، على أساس الحرية والمساواة. وأنتج العقد الاجتماعي بِبُعده التطبيقي جملة من المسلّمات التي لا تخضع للتجاذبات السياسيّة، وترَك المساحة المتبقيّة للتنافس المشروع في السلطة. من بين هذه المسلمات أو الثوابت، نجد السياسة الاقتصادية العامة للبلاد، والسياسة الدفاعية والإستراتيجيات المرتبطة بها، والسياسة الخارجية بركائزها الأساسية.

إذا نظرنا إلى الحالة السياسية اللبنانية الراهنة، نجد بسهولة الخلاف العميق المتعلّق بهذه المسلّمات بين أعضاء المجموعة السياسية الحاكمة. فلقد بقي البلد بدون موازنة طَوال أحد عشر عامًا؛ لتقاعس الحكومة والمجلس النيابي عن دورهما في وضعها وإقرارها. والمعلوم أنّ الموازنة تشكّل العمود الفقري للسياسة الاقتصادية والتنموية، فتُعبّر بذلك عن بُعد من أبعاد العقد الاجتماعي الذي يهدف إلى تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية وفق خيارات الشعب، إضافة إلى أن وجود الموازنة السنوية ضروري لمراقبة الإنفاق وتأمين الشفافية، وهي أيضًا من مقتضيات العقد الاجتماعي.

أما بالنسبة إلى السياسة الدفاعية والإستراتيجيات المرتبطة بها، فلقد بقي هذا الموضوع مطروحًا لسنوات عديدة على ما أُطلق عليه اسم "طاولة الحوار الوطني"، التي جمعت أقطاب السياسة في لبنان، إلى أن توّقف هذا الحوار وتُرك الموضوع بدون معالجة أو رؤية جامعة حوله. فكيف يكون عقدٌ اجتماعي بين أطراف غير قادرين على الاتفاق على كيفية حماية ذاتهم كشعب واحد ومجتمع مُوحّد؟!

وفي السياسة الخارجيّة حدِّث ولا حرج عن التناقضات في الخيارات والممارسات بين الأفرقاء السياسيين، ولا يردعهم عن هذا التناقض وجودهم معًا في حكومة ائتلافية أو وفاقيّة مشتركة. فعندما يعادي قِسم من الشعب دولة في حين يتحالف معها القسم الآخر، أو يتحالف قسم مع دولة هي تعادي القسم الآخر من هذا الشعب، يدلّ ذلك على أنّ انفراط العقد الاجتماعي يُترجَم بتحالفات مع الخارج ضدّ أو على حساب قسم من الداخل. فأيّ وحدة للشعب في هذه الحال؟ وعن أي عقد اجتماعي نتحدّث؟

"المضحك-المبكي" في آن، هو أنّ نفس هذه السلطة السياسية، على تناقضاتها في ما خصّ المسلّمات، لا تجد صعوبة في التوافق على تفاصيل الحياة السياسية، حيث في السياق الطبيعي للأمور تكمن المنافسة السياسية من أجل تقدّم العمل في خدمة الشأن العام، فيجتمعون جميعًا، على تناقضاتهم، في حكومة واحدة، ويتوافقون بالتراضي بدل المرور بالمناقصات الطبيعية، على التزامات ماليّة ومشاريع غير واضحة المعالم، وهم عاجزون عن الاتفاق على سياسة مالية عامة للبلاد.

باختصار القول، روسو يسير عندنا على رأسه، حيث أصبحت مسلّمات العقد الاجتماعي موضوع خلاف، وقضايا التنافس السياسي موضوع توافق وتحاصص بالتراضي. والأسوأ عندما ندرك أنّ هذا ليس سوى رأس الجبل الجليدي؛ أما عمقه فينمّ على فقدان شعبنا لصفته "المدنيّة"، ومن ثَمَّ لوحدته الوطنية، ما دام قد بقي على خياره لِسلطة سياسية كهذه.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive