الرجوع

صراع القيم

الخميس

م ٢٠١٧/٠٤/٠٦ |

هـ ١٤٣٨/٠٧/١٠

تُحدّد القيم نوعيّة حياة الأفراد وعلاقاتهم المتبادلة. وفي كثير من الأحيان يرتبط مصير المجتمعات والدول، بالمنظومة القيميّة لدى أفرادها وقياداتها. فالقيم ليست إذًا مجرّد شعارات يتغنّى بها الوُعَّاظ والخطباء، ولا مجرّد دروس يُلقّنها المعلّمون لتلامذتهم. إنّها خيار شخصي، وموروث جماعي، يحدّد مسار الحياة وجودتها. فالفرق واضح بين حياة مبنيّة على السلبيّة، والتخاذل، والالتباس، والاستغلال، والفساد، والتقوقع، والارتهان، والبغض، والأنانيّة، والظلم، والعنف، وأخرى مبنيّة على الاحترام، والانفتاح، والمصداقيّة، والشفافيّة، والالتزام، والمحبّة، والشجاعة، والعدل، والتضامن، والسلام.

من الواضح أيضًا أنّ تبنّي القيم يُشكّل مسيرة من الالتزام اليومي، لتحويلها إلى ممارسات عمليّة وفضائل ثابتة، تُكوّن شخصيّة الأفراد. فلا أحد من الناس يعيش القيم بشكل كامل ومتواصل، دون أي خلل والتباس، ولكن البَون الطبيعي بين المبادئ القيميّة، والحياة المُعاشة، يختلف جذريًّا عن خيار الفرد بين القيم السلبيّة، أو الإيجابيّة. فجهد الإنسان، الملتزم بالقيم الإيجابيّة، في مقاومة ضعف إرادته أحيانًا في وجه تحدّيات الحياة، يختلف جذريًّا عن موقف الإنسان المرتبط بقيم سلبيّة، مهما حاول تجميل المظهر وتبرير الوسائل. فالضعف والقصور تجاه خيارات الحياة القيميّة، هو أمر طبيعي يجهد الإنسان في تخطّيه يوميًّا. أمّا السلوك في اتجاه الشر والبغض والفساد، فهو مُعاكسة لمعنى الحياة والوجود الاجتماعي.

يتلقّى الفرد منظومته القيميّة عبر البيئة التي يعيش فيها، والتربية العائليّة، والمدرسيّة، والدينيّة، والمجتمعيّة، ومن ثمّ يُحدّد بذاته عبر مسار حياته، خياراته القيميّة الخاصة، منتقيًا مما تلقّاه ما يُناسبه، ومتبنّيًا قيمًا أخرى وفق إرادته. لكن المشكلة تكمن في التباين، وحتى أحيانًا في التناقض بين المنظومات القيميّة المختلفة التي يتعرّض لها الفرد، كالاختلاف بين القيم العائليّة والقيم الاجتماعيّة، أو الاختلاف بين القيم الدينيّة والقيم التربويّة. فالإنسان اليوم لم يعد يعيش في مجتمعات منغلقة، حيث تطغى منظومة قيميّة أحاديّة تتماهى فيها القيم العائليّة، والتربويّة، والدينيّة، والمجتمعيّة، بل هو عرضة لمنظومات قيميّة متباينة ومتناقضة، تتطلّب منه أن يحسم الصراع في ما بينها، ويُحدّد خياراته تجاهها. يضع هذا الموقف الفرد في حالة من التمايز والاختلاف مع بيئته الخاصة، وقد يصل به ذلك إلى الخلاف معها، إذا أتت خياراته غير منسجمة معها. فمن الطبيعي أن يترتّب على ممارسة المسؤوليّة الشخصية في تحديد الخيارات القيميّة، وتكوين الشخصيّة الذاتيّة، بعض التشنّجات مع البيئة الطبيعيّة للفرد.

إنّ رُشد المجتمعات يُقاس برقيّ منظوماتها القيميّة، والتوافق بين أبنائها، على اختلاف انتماءاتهم، على قيم أساسيّة يتبنّاها جميعهم ويدافعون عنها. يقول اللاهوتي السويسري هانس كونغ، صاحب نظريّة القيم العالميّة، بأنّ العالم الموَحّد اليوم بفعل العولمة، يحتاج إلى منظومة قيميّة واحدة. فالحاجة ليست إلى ديانة واحدة، أو إيديولوجيّة سياسيّة واحدة، بل إلى مجموعة من القيم، والمبادئ، والمُثل، والأهداف المشتركة بين الناس، تكون مُلزِمة لهم، ومحقّقة للترابط في ما بينهم. لذلك يقول كونغ بأنّ الأديان تتحمّل حاليًّا مسؤوليّة خاصة في بناء السلام العالمي. فمصداقيّة جميع الأديان ترتبط بتركيزها على ما يجمع في ما بينها، أكثر منه على ما يفرّق بعضها عن بعض. فلدى البشريّة رفض متزايد، لأنْ تكون الأديان سببًا لنشوء الحروب بدل بناء السلام، وللتطرّف بدل العمل على المصالحة، ولإدعاء الفوقيّة بدل الالتزام بالحوار.

أمّا الواقع اليوم، وخاصة على مستوى المجتمعات العربيّة، فيُظهر وجود قوى داخل المكوّنات الاجتماعيّة، سياسيّة كانت، أم إيديولوجيّة، أم دينيّة، تريد أن تسير في الاتجاه المعاكس عبر تأكيد خصوصيّة قيميّة منغلقة، والترويج لها بوسائلها التعبويّة الفعّالة. فهل يستطيع الإنسان العربي أن يقف في وجه هذه المنظومات، وينظر إليها بعقله الراشد والحر، ويحكم عليها، ويختار ما يُناسبه منها، ويرفض، وحتى يُناهض ما فيها من تخلّف وإجحاف بحق الإنسان وكرامته؟ هل يستطيع أن يكون الحَكم الذي يحسم الصراع لمصلحته، وللمصلحة الاجتماعيّة العامة في آن، أم يبقى رهينة الأدلجة وأسير التقوقع، وإن كان على حساب حياته وسعادته؟

إنّ قيمة القيم تأتي من حريّة من يمارسها. فأوّل ما يحتاج إليه الإنسان العربي، هو تحرّره مما يأسر عقله وإرادته، من موروثات لم تعد تنسجم مع حياة اليوم والرقي الاجتماعي، دون أن يتعارض ذلك بالضرورة مع انتماءاته الثقافيّة، أو السياسيّة، أو الدينيّة الخاصة. بذلك، يُخرج هذه المنظومات الخاصة من دائرة الصراع إلى دائرة التجدّد المستمر، الذي لا بدّ أن ينطلق من تبنّي الحريّات الفرديّة، والمساواة في الحقوق، والتضامن الشامل لتحقيق ذلك.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive