الرجوع

صناعة السلام

الخميس

م ٢٠١٨/٠٢/٢٢ |

هـ ١٤٣٩/٠٦/٠٧

 

لقد أُعلن الإثنين الفائت في 19-2-2018، في طوكيو وروما وبيروت، عن نَيل مؤسّسة أديان جائزة نيوانو العالمية للسلام. هذا فخرٌ للمؤسسة، وللبنان، وللمجتمعات العربية بأسرها، بأن تكون هذه المؤسسة الصغيرة والمميّزة في نشاطها، محطّ أنظار العالم، ومَوضع ثقة القيّمين على هذه الجائزة.

أَنشأت مؤسسةُ نيوانو للسلام، حسب ما جاء في بيانها الصادر بالمناسبة، جائزةَ نيوانو للسلام "لتكريم وتشجيع الأفراد والمنظمات الذين ساهموا إسهامًا كبيرًا في التعاون ما بين الأديان، وبالتالي تعزيز السلم العالمي، ونشر انجازاتهم على أوسع نطاق ممكن". أخذت الجائزة اسمها هذا من نيكيو نيوانو (1906-1999)، وهو المؤسس والرئيس الأول للمنظمة العلمانية البوذية "ريشو كوسي كاي". يقول نيكيو نيوانو إنّ "السلام ليس مجرّد غياب الصراع بين الأمم، بل هو تناغم ديناميكي في حياة الناس ومجتمعاتنا وأممنا والعالم أجمع"، وقد اعتبر أنّ السلام هدف للبوذية.

تأتي هذه الجائزة في زمن أُثخنت فيه أجساد مجتمعاتنا بالجروح، من جرَّاء العنف، والظلم، والحروب، وغياب العدل والعدالة الاجتماعية. فهي مناسبة لإحياء الأمل وتوسيع الأفق، لكي نعود إلى اليقين بأنّ السلام وليس الصراع، هو هدف الحياة. مع أنّ هذا القول يبدو بديهيًّا، ولكن ينتابني شعور بأنّ تكاثر الصراعات التي يُجبَر الإنسان على أن ينخرط فيها أو يختارها، قد تُنسينا أحيانًا أنّ غاية الحياة هي السلام، وأنّ الصراع ليس السبيل الوحيد إلى الوصول إلى هذه الغاية.

جاء في الحديث النبوي الشريف: "أَفْشُوا السلامَ كي تَعْلُوا". ولافتٌ أنَّ النبيّ ربطَ "العُلوّ"، أي الرُقيّ الاجتماعي والروحي للناس، بإفشائهم للسلام. كذلك جاء على لسان السيد المسيح: "طُوبَى لِصانِعِي السَّلامِ، لأنّهم أبناءَ اللهِ يُدْعَون" (متى 5: 9). فربط المسيح العلاقة بالله، بأرقى تجلّياتها عند توصيفها بالبنوّة، بصنع السلام في العالم. تتلاقَى هذه التعاليم مع ما رآه نيكيو نيوانو في البوذيّة، من دعوة إلى بناء السلام. وأيضًا تُشكّل الخياراتُ الإنسانيّة المعاصرة على المستوى العالمي، صدًى لهذه التعاليم. فنقرأ في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة بأنّ أُولى مقاصد هذه المؤسسة الدولية: "حفظ السِّلم والأمن الدولي". وفي التعريف برسالتها، أدرجَت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، في بداية ديباجة ميثاقها التأسيسي، هذا القول الشهير: "لما كانت الحروب تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام".

لكن، يبقى السؤال: لماذا لم تأتِ بَعْدُ كلُّ هذه التعاليم بفعلها؟ وما السبيل إلى الوصول إلى ذلك؟

وأتساءل أيضًا: هل السلام هو فقط الغاية المنشودة التي نصبو إليها، أمّا النضال فهو الحالة التي "كُتب" علينا أن نعيشها باستمرار، في سعينا نحو غاية لن ندركها بالكامل؟ يُذكّرني ذلك بما ختم نيلسون مانديلا به كتاب مذكّراته قائلًا: "لقد اكتشفت السرّ، وهو أنّه فقط بعد تسلّقِه قمّة عالية، يكتشف المرء وجود قمم أخرى للتسلّق". ويعلّق على ذلك بأنّه سوف يأخذ قسطًا من الراحة على هذه القمّة، لكنّه يدرك أنّ هذه الاستراحة لن تطول؛ لأنّه مع الحرية تأتي المسؤولية، والمسيرة لم تكتمل بعدُ. ما يقوله مانديلا عن الحرية، ينطبق أيضًا على السلام. فهو قد اعتبر أنّ الحرية لا تنقسم: "إنّ قيود أيّ من أبناء شعبي هي قيود لجميعهم، وقيودهم هي قيودي". لذلك، لا يعيش بسلام كلّي مَن وضع السلام غايةً لحياته، ما دام قد استمرّ العنف والظلم في قهر الناس، أيًّا كانوا هؤلاء.

المسألة في الواقع، في غاية التعقيد. فالسلام لا يستطيع أن يَقبل الظلم، ولا أن يعيش في ظلّه. من هنا، لا مجال للخنوع والاستسلام للظلم في مسيرة بناء السلام. يقتضي ذلك التمسّك بالحق والدفاع عنه، شرط أن يكون مفهومنا للحقّ شاملًا لا يتجزّأ. هذا ما أكّده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: "الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم".

السلام يتطلّب إذًا رفض الظلم والعنف، والنضال من أجل الحقّ، على أن يترافق ذلك مع تحديد وسائل هذا النضال، التي لا تُسقطه في الصراعات المولِّدة لأشكال أخرى من الظلم. لهذا السبب، تقتضي "صناعة السلام" بناءَ رأي عام متمسّك بقيم السلام والمواقف المرتبطة به من جهة، واعتمادَ منهجيّات وأدوات تسمح بنصرة الحقّ وردع العنف، دون إحداث ظلم، من جهة أخرى.

بالعودة إلى تكريم مؤسسة "أديان" لعملها في هذا الحقل، نجد أنّها تتمتّع بوضوح بتحديد المنظومة القيمية التي تُسَيّر عملها، نختصر قراءتها في الكرامة الإنسانية، والتنوّع، والتضامن. وأيضًا هي تتبنّى مفاهيم لافتة مثل "المواطنة الحاضنة للتنوّع"، و"المسؤولية الاجتماعية للأديان"؛ وتعمل على زرع هذه القيم والمفاهيم لإنتاج المواقف المناسبة لدى الأشخاص، والبِنَى الملائمة في المجتمعات، لتحقيق السلام بشكل مستدام.

هنيئًا لأديان، ولجميع صانعي السلام، مع الدعاء لهم بالثبات في نضالهم مهما كثرت التحدّيات.

 

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive