الرجوع

عقيدة الاختلاف

الثلاثاء

م ٢٠١٧/٠٢/٠٧ |

هـ ١٤٣٨/٠٥/١١

كان على العالم أن ينتظر قرار الرئيس الأميركي "دونالد ترامب"، القاضي بحظر دخول مواطني سبع دول إسلامية إلى الولايات المتحدة، ليعي حجم التهديدات التي تُقوض مبادئ احترام التعددية الثقافية والدينية والإثنية، التي يقوم عليها العالم الحر.

لطالما كان هاجس حماية "الأمن الداخلي" حجة المهووسين، بالقطع مع الآخر المختلف عنهم دينًا وثقافةً وعِرقًا، وهي حجة تجد مكانها اليوم وسط صراعات سياسية تستغل هذا الهاجس، وتحديدًا لدى أكثر الأفراد هشاشة، من حيث تقبل الاختلاف.

"ستيفن ميلر" كاتب خطابات دونالد ترامب، ابن الـ31 عامًا، كتب نص قرار حظر مواطني العراق، وسوريا، وليبيا، والسودان، واليمن، والصومال، وإيران، من دخول الولايات المتحدة، لا عشية فوز المرشح الجمهوري في الانتخابات، بل قبل عدة أشهر من ذلك، مجهِّزًا الأرضية التي استند عليها ترامب فور دخوله البيت الأبيض، لمنع مواطني تلك الدول من دخول البلاد.

"ميلر" - منذ كان طالبًا- كتب مقالات عدة، يتحدث فيها عن تخوفه من امتداد الهوية اللاتينية على حساب الأميركية، في أوساط الطلاب من أصل مكسيكي؛ وكان ضد اتحادات الطلبة السود، معتبرًا الاثنين "تنظيمات تدعو إلى العنف الإثني"، كان متخوفًا من التنوع الثقافي داخل المجتمع الأميركي، منذ كان فتيًّا رغم انتمائه إلى أسرة يهودية.

هكذا تنشأ الصراعات المبنية على الهوية، إنها صراعات عميقة الجذور، يكاد لا يخلو قرن منها. شهدنا في القرن الماضي إبادات جماعية خلال الحربين العالميتين، وفي الصراع في رواندا، وفي البوسنة والهرسك، شهدنا بالإضافة إلى التطهير العرقي، عمليات اغتصاب جماعية للنساء. هذه الصراعات لم تتوقف في القرن الحادي والعشرين، حيث تستخدم اليوم أساليب التجويع والتهجير ضد أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار، والأزيديين في العراق، إلى جانب الصراعات السنية الشيعية، واضطهاد المسيحيين في بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة.

في المجتمعات "السليمة" لا تمر حوادث اضطهاد الأقليات مرور الكرام. رأينا قبل أيام  آلاف المتظاهرين في مطارات الولايات المتحدة، ينددون بقرار ترامب حظر دخول أفراد بسبب دينهم. والمقصود بالمجتمعات "السليمة"، المجتمعات التي يتمتع جزء مهم من مواطنيها، بوعي جماعي باحترام مبادئ التعددية والاختلاف، لا من باب المثالية، بل من باب الإيمان بأن الأمن القومي يعني تعايش الهويات الثقافية والدينية واللغوية، في كنف الاحترام والمساواة والتصدي لكل محاولة تمييزية ضد هوية ما، واعتبار ذلك خيانةً للأسس التي قام عليها بناء المجتمع والدولة.

لكن، ماذا عن العرب؟ هل المجتمعات العربية "سليمة" من حيث وعيها بضرورة الدفاع عن التعددية؟ تبدو الخطابات السياسية للمسؤولين العرب مثالية في هذا الصدد، لطالما سمعنا أن مكانة الأقليات محفوظة، لكننا في الواقع نصطدم بحوادث وممارسات مختلفة تمامًا عن الخطاب السياسي، لا سيما عند الحديث عن ممارسة الأقليات شعائرها الدينية في الدول الإسلامية.

الحق في الهوية كما يعرفه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ينص على أنه "لا يجوز في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، أن يُحرَم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة، من حق التمتع بثقافتهم الخاصة، أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره، أو استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم".

ورغم تكرار الاعتداءات على أماكن عبادة الأقليات في الدول العربية، إلا أن السلطات تعتبرها "ممارسات فردية". شاهدنا اتفاقيات "صلح" عديدة تُفرض على الأقلية المتضررة، لإسقاط حقها في تتبُّع الجناة. إنها طريقة ملتوية للتملص من المسؤولية، وتحجيم فداحة الانتهاكات.

تطرق تقرير هيومن رايتس لعام 2017 إلى حوادث العنف ضد المسيحيين في مصر ذاكرًا "فشل السلطات في حماية الأقليات المسيحية من الهجمات". وفرض "جلسات صلح سمحت للجناة المسلمين بالإفلات من الملاحقة القضائية، وكرست الإفلات من العقاب."

أما في تونس، فينص الدستور في فصله السادس على أنّ "الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات"، لكن السلطات ترفض الاعتراف بالطائفة البهائية، وترفض منح أتباعها تصريحًا لتأسيس جمعية لهم.

أمثلة عديدة على انتهاك حرية المعتقد في الدول العربية، تمرّ دون محاسبة ولا تغطية صحفية، وكأنه إقرار بحق تسلط مجموعة على أخرى أقل منها عددًا ونفوذًا. جميل انتفاض غير المسلمين في أميركا بشكل عفوي ضد قرار حظر دخول مسلمين، إنه يشكل نوعًا من الوعي الجماعي بأهمية التضامن مع من ظُلِم بسبب عقيدته. بعض المسلمين رأوْا في هذه المظاهرات "نصرة للإسلام"، والحقيقة أنها ليست نصرة لدين، بل نصرة للإنسان أيًّا كان معتقده.

لا يمكن الحديث عن أهمية احترام التعددية الدينية في الغرب، دون معالجة الأسباب الحقيقية للانتقاص من أهمية التعددية في دولنا العربية أولًا. فكل صراع عميق الجذور بين هوية دينية وأخرى، انطلق من صراع داخلي، داخل الفرد أولًا، بسبب رفضه تقبل الآخر، ولن نحقق التعايش بانسجام مع الناس دون تقبل الآخر، مهما بدا لنا "مختلفًا" عقيدةً، وثقافةً.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive