الرجوع

“قسم خاص للمحجبات”

الثلاثاء

م ٢٠١٧/٠٢/٢١ |

هـ ١٤٣٨/٠٥/٢٥

صديقتي التي تخرجت في جامعة مصرية رسمية في أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، كانت تعاني الأمَرَّين. فهي لم تدخل يومًا ضمن تصنيف "الأيزو" القياسي النسائي المصري في ذلك الحين. فحين كانت غالبية النساء والفتيات يحرصن على تمليس شعرهن عند المزيِّن، ليتم فَرْدُه وصقله تحت وطأة درجات حرارة عاتية، تُميت ما فيه من تكسُّرات، وتقضي على ما به من تجعيد، ليبدو كلوح خشب خرج لِتَوِّه من ورشة نجارة - كانت هي تفخر بشعرها بالغ التجعيد.

كانت تقول إنها تمردت على منظومة "البيج والبني". لم أفهم تمامًا ما تقصده. لكن بمرور السنوات فهمت، وليتني لم أفعل. فالبيج والبني لونان تعشقهما الملايين، لكنهما غارقان في التقليدية، منغمسان في الكلاسيكية، مفرطان في رفض الآخر. فقد ثبت فيما بعد أنَّ كلاًّ منهما قابل للاندماج مع قائمة طويلة من الألوان الأخرى، وأن ثنائيَّتهما ليست أبدية بالضرورة، بل كل منهما قابل للتعددية.

ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، سنوات فارقة في مسار التعددية - وفي أقوال أخرى اللاَّتعدُّدية- في بلادنا. غياب سنوات قليلة عن المنطقة بين أواخر الثمانينيات ومنتصف التسعينيات، كان غيابًا يوازي غياب مئة عام. تغيَّر شكل الشارع، وتبدَّلَت أحوال البشر، وانقلبت الأحوال رأسًا على عقب.

ولأن المنظومة النسوية عادة تكون أسهل، وأقرب السبل لقياس مسار المجتمعات؛ فإن عبارة "قسم خاص للمحجبات"، التي تسلَّلَت تدريجيًّا إلى محلاَّت تصفيف الشعر، كانت معيارًا لما يجري في المجتمع. فقد انتشرت ظاهرة تغطية النساء والفتيات لرؤوسهن بين شتَّى الفئات، بعدما كانت حكرًا على أقلِّ الطبقات الاقتصادية، وساكنات القرى والمناطق الشعبية، وهو انتشار ألقَى بظلال عدة على التركيبة المجتمعية، والعلاقات بين الناس في الشوارع، ودوائر المعارف.

من وجهة نظر تجارية ربحية بحتة، وجد مصفِّفو الشعر أنَّهم معرضون لخطر داهم وَصَل حد التهديد بالإغلاق، بعدما أصبحت الغالبية العظمى من النساء يغطين شعرهن، ما استلزم الاستعانة بعاملات من النساء، وفصل العميلات غير المحجبات عن المحجبات، حتى لا يراهن العُمَّال من الرجال. لكن الأمر تطوَّر إلى ما هو أبعد من صالات تصفيف الشعر. فقد بات المجتمع يصنِّف "غير المحجبة"، ضمن لائحة الخارجات عن منظومة "البيج والبني"، المقبولة والمتوارثة، في حين تربَّعت المحجبة - بِغَضِّ النظر عن تصرفاتها وأخلاقها وسولكياتها- ضمن المنظومة، ما أحدث شرخًا عميقًا مسكوتًا عنه نظرًا لحساسيَّته الدينية (مع أنَّه ليس كذلك)، وخطورته الطائفية (مع أنَّه ليس كذلك). وزاد طين التفرقة العنصرية بَلَّة، المباركة المجتمعية لهذا التصنيف غير العادل، وهو ما نتج منه نفاق كثير، وكذب بليغ، وارتقاء قليل.

في القطار السريع بين الإسكندرية والقاهرة، فتاة تعمل في البوفيه. تضع مكياجًا صارخًا، وترتدي تنورة سوداء قصيرة. يصل القطار محطته الأخيرة، فتترجَّل مرتدية عباءة سوداء فضفاضة، وغطاء رأس أسود، ولا تميِّزها سوى ثمرة البندورة الزاعقة على شفتيها. تقول: "تلك ملابس العمل، لكن هذه عباءة العودة إلى البيت". ومن عباءة العودة إلى البيت، إلى ختم الخروج منه، وركوب المواصلات العامة، والتقديم في وظائف، والحصول على درجات علمية، وغيرها من التفاصيل؛ أصبح الحجاب أو عدمه عنصرًا فاعلاً في الاختيار.

وحتى وقت قريب، كان مبنى ماسبيرو (معقل الإذاعة والتلفزيون المصري الرسمي)، يمنع منعًا تامًّا ظهور مذيعة تغطي شعرها. في الوقت نفسه، بدأت أمارات التفرقة، وعلامات الهوى والميل، تعبِّر عن نفسها في لجان الاختبار، ومعايير الانتقاء ومقاييس الحكم. فإذا كان رئيس لجنة اختيار الموظفين الجدد يميل إلى الحجاب، ويربطه بحسن الأخلاق وجودة السلوكيات بالضرورة، فهو يختار المتقدمة التي تغطي رأسها، حتى لو تفوَّقَت عليها قرينتها ذات الشعر الظاهر، . وفي لجان الامتحان الشفهي في الكليات، يعرف الجميع أن الانتقاء "الديني" - وفي أقوال أخرى "الأخلاقي"- يتحكَّم في الدرَجات. وفي عربة السيدات في مترو الأنفاق، تسود المعايير ذاتها في انتقاء مَن تحظَى بالمقعد الشاغر. فالطالبات المنتقبات والمحجبات اللاتي يستَعْدِدن للترجُّل، ينادين الأخت المحجبة البعيدة، حتى لا تحظى بالمقعد "السافرةُ" القريبة.

صديقتي التي ما زالت متمرِّدة على منظومة "البيج والبني" بنسختها الجديدة في الألفية الثالثة، ما زالت تطلق العنان لشعرها المتجعد، وفكرها المتجدد، وتدرس مادة "الأديان والتعدُّدِيّة"، لكن في بلاد غير البلاد، حيث يتعلم الطلاب أن الأديان لا تتعارض مع التعددية، أو هكذا يُفترَض!

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive