الرجوع

لا للطائفية. نعم للتعددية الثقافية

الخميس

م ٢٠١٧/٠٣/٠٩ |

هـ ١٤٣٨/٠٦/١١

إنّ الانتقال من "المواطنة القومية"، إلى "المواطنة الحاضنة للتنوع"، يقتضي رسم معالم الإدارة السياسية للتعددية الثقافية. إن الأنظمة الطائفية تقضي على الحقوق المدنية، والسياسية، وحتى الاجتماعية للفرد، باسم هويته الثقافية، دينية كانت أم إثنية، فتجعل منه تابعًا لقيادات طائفية، تدّعي حماية هويته وخصوصيته عبر احتكار تمثيل مصالحه، وآليات الوصول إلى حقوقه. ويتخلّى الفرد في المقابل، عن دوره في المشاركة في الحياة العامة، بما تشمل من انخراط في النقاش العام، والنضال، والمساءلة، والمحاسبة، ليستبدل كل ذلك بالولاء للزعيم الطائفي، والتبعية له.

إذًا، تقع المواطنة الحاضنة للتنوع بين نقيضين: المواطنة القومية التي تدّعي صهر مكونات المجتمع الثقافية، بهوية أيديولوجية مفترضة من جهة، والطائفية من جهة أخرى، التي تدّعي حماية حقوق المواطن عبر خصوصيته الثقافية، وهي في الواقع تحوّله إلى تابع، يتحرّك وفق مصالح الزعيم الذي يدّعي تمثيله. في المقابل، تقتضي المواطنة الحاضنة للتنوّع، الاعتراف بالحقوق الثقافية للمواطنين، التي تأخذ بُعدًا جماعيًّا، إضافة إلى حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية التي هي بحت فرديّة. فالأوطان لا تقوم على ائتلاف الطوائف في ما بينها، بل هي تقوم على سيادة الشعب، الذي يتكوّن من مجموع المواطنين دون تمييز في ما بينهم. أما الطوائف بما تعني من جماعات ثقافية مختلفة، فهي تشكل مكوّنات النسيج الاجتماعي الوطني، دون أن تحتكره، ودون أن تُؤسَر فيه.

يجمع هذا الموقف بين مبدأين: المبدأ الأول يقوم على اعتبار أن الهدف الرئيسي للأوطان، هو تحقيق الحياة البشرية الكريمة لكل الأفراد، انطلاقًا من كرامة الإنسان الأصيلة فيه، وحقوقه المرتبطة بها، بغضِّ النظر عن انتماءاته الخاصة. أما المبدأ الثاني، فيقوم على الأخذ بالاعتبار البعد الاجتماعي للحياة البشرية، حيث يتأثر الفرد ببيئته المباشرة، ويأخذ منها عناصر ثقافية أساسية في تكوين شخصيّته وتحديد هويته. يتطلّب ذلك، وضعُ عقدٍ اجتماعي ذي طابع مدني جامع غير أيديولوجي، وإيجاد نظام سياسي يقوم على احترام المبدأين المذكورين، ويعالج مكامن التعارض بينهما. لذلك، نعتبر أنّ الإدارة السياسية للتعددية الثقافية تقتضي ما يلي:

أولًا: الاعتراف بعالميَّة المقاييس المرتبطة بالحقوق المدنية (كحريّة التعبير والمعتقد، وممارسة الشعائر الدينيّة، وحق التعاقد، والارتباط، والتنقّل، والتملّك.. إلخ)، والحقوق السياسية (كحقّ المشاركة في السلطة عبر الاقتراع، والترشّح، وتأليف الجمعيّات والأحزاب والانضمام إليها.. إلخ)، والحقوق الاجتماعية (كحقّ التعلّم، والاستشفاء، وضمان الشيخوخة والسكن، والعمل، وتأمين متطلّبات العيش الكريم الأساسيّة.. إلخ). فلا يجب أن يكون تمييز بين المواطنين، بالنسبة إلى هذه الحقوق.

ثانيًا: وجود نظام سياسي تمثيلي قائم على الانتماء الوطني لا الطائفي، ومرتبط بنشاط حزبي عابر للطوائف، مع قوانين انتخابية تضمن التمثيل العادل للجميع. يترافق ذلك مع لامركزية واسعة في إدارة الحياة العامة، يمكن أن تأخذ أشكالًا مختلفة، وصولًا إلى الفدرالية، على أن تقوم على أساس جغرافي غير مرتبط بالديمغرافية الثقافية، وتؤمِّن التنافس الإيجابي على المستوى الإنمائي بين المناطق، وتشكِّل منصَّة لإبراز الوجوه السياسية الناجحة وطنيًّا.

ثالثًا: تأمين المساحة الكافية لمكوّنات المجتمع الثقافية للتعبير عن خصوصياتها، وذلك ليس فقط في مجالاتها الخاصة، عبر دُور العبادة، والمؤسسات الثقافية والتربوية الخاصة، كالمدارس، والجمعيّات وغيرها، بل أيضًا عبر المجال العامّ المشترك ومكوناته، مثل: المناهج التربوية الوطنية، والمتاحف العامة، وأسماء الشوارع، واختيار الأعياد الوطنية، وغيرها.

رابعًا: يمكن أن تشمل المنظومة القانونية، قوانين خاصة مرتبطة بالانتماءات الثقافية أو الطائفية، مثل قوانين الأحوال الشخصية، شرط أن تكون اختيارية ومنسجمة مع المقاييس العالمية لحقوق الإنسان. فللسلطة السياسية أن تقرّ ما تراه مناسبًا أو لا، مثل سِنّ الزواج، أو تعدُّد الزوجات.. إلخ.

خامسًا: اعتراف المؤسسات العامة بدور مكونات المجتمع الثقافية، ومؤسساتها الخاصة على المستوى الوطني. فالخاص هو عامّ أيضًا بما يتعلّق بتكوين النسيج الاجتماعي، والثقافة العامة، والهوية الوطنية الجامعة. فعلى النظام السياسي العامّ دعم هذه المؤسسات الخاصة، وإبراز إسهاماتها على المستويات كافة، وتحفيز التفاعل والتلاقح الثقافي بين مختلف مكونات المجتمع.

سادسًا وأخيرًا: ضمان وصول المواطنين إلى حقوقهم الأساسية، عبر القنوات السياسية لا الطائفية، لكي لا يبحث المواطن عن حقّه باسم الجماعة الخاصة، ولا تبحث الجماعة عن دعم خارجي عبر امتداداتها خارج حدود الوطن، للتأثير في العملية السياسية داخليًّا، فينفرط العقد الاجتماعي الوطني، ويعود المجتمع إلى جاهلية الصراعات القبلية.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive