الرجوع

من هم الأقليّات؟

الخميس

م ٢٠١٧/٠٣/١٦ |

هـ ١٤٣٨/٠٦/١٨

تُعرّف "المجموعة الدوليّة لحماية الأقليّات" الأقليّات بالفئات التي -بسبب اختلاف طبيعي، أو ثقافي- تتعرّض للتمييز، ضمن مجتمعها الوطني. يُبيّن ذلك أنَّ العامل المحدّد لمفهوم الأقليّة، هو الإجحاف بحقوق المنتمين إليها، قبل أن يكون حجمَ الجماعة العدديَّ أو النسبيّ. في هذا السياق، يمكن أن نعتبر النساء مثلًا في كثير من المجتمعات، أنّهن أقليّة؛ لِما يُمارَس بحقّهن من تمييز، وتحجيم لحقوقهن، ولمشاركتهن في الحياة العامة. كما يمكن اعتبار الأشخاص ذوي اللون الأسود في أفريقيا الجنوبية، خلال نظام التمييز العنصري ضدّهم (الأبرتيد) أقليّة، وإن كان عددهم يشكّل 80% من مجموع السكان. في حين أنه بعد سقوط نظام التمييز، وتبنِّي أفريقيا الجنوبية نظام المساوة في المواطنة، لم تصبح فئة الأشخاص ذوي اللون الأبيض أقلية، مع أن نسبتهم لا تتعدّى 8% من عدد السكان.

أما "إعلان الأمم المتحدة بخصوص حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليّات قوميّة، أو إثنيّة، أو دينيّة، أو لغويّة"، الذي تبنّته الجمعية العامة في 18/12/1992، فيتحدّث عن مسؤولية الدول عن صون الهويات الخاصة للأقليات. وبذلك، يُضيف الإعلان إلى مفهوم الأقليّات، مسألة تمايز الهويّات الجماعيّة الخاصة عن الهويّة الوطنيّة، أو إشكاليّة قصور الهويّة الوطنيّة في احتضان التنوّع الثقافي المكوّن للنسيج الوطني، ما يقتضي حماية مَن هُم خارج التعريف العامّ، والمحافظة على حقّهم في الوجود وَفْق منظومتهم الثقافيّة الخاصة.

إنّ مؤتمر الأزهر الذي انعقد في نهاية شهر شباط/فبراير الفائت في القاهرة، شدّد في إعلانه على تلاقي المسلمين والمسيحيّين على رفض مفهوم الأقليّات، معتبرًا أنّهم معًا "أُمَّة واحدة. للمسلمين دينهم، وللمسيحيين دينهم"، اقتداءً بما نص عليه دستور المدينة. وعليه، يقول البيان: إنّ المسؤوليّات الوطنيّة، مسؤوليّات مشتركة بين الجميع على أساس المواطنة، والمساواة، وحكم القانون. لذلك، تمنّى الإعلان التنبّه لخطورة المضيِّ في استخدام مصطلح "الأقليّات"، الذي يحمل في طيَّاته معاني التمييز والانفصال بداعي تأكيد الحقوق، ويؤدّي إلى توزّع الولاءات، والتركيز على التبعيّة لمشروعات خارجيّة.

يشكّل هذا البيان موقفًا لافتًا للأزهر، في تبنّيهِ مفهوم المواطنة، وتأكيده انسجام ذلك مع التعاليم الإسلاميّة. كما يرفض غالبيّة المسيحيّين المشرقيّين نَعْتهم بصفة الأقليّات، إنْ جاءت من داخل أوطانهم، أو من المجتمعات الغربيّة. ويعبّرون برفضهم هذا عن تمسّكهم بأصالة انتمائهم الحضاري والوطني من ناحية، وعن سعيهم إلى تحقيق المواطنة الجامعة التي تعلو الانتماءاتِ الطائفيّةَ الخاصة، من ناحية أخرى.

لكن، لا بدّ من الاعتراف بأنّ المواقف لا تُبدِّل الوقائع، إذا لم تترافق مع تغيير فعلي في البنى السياسيّة والاجتماعيّة، التي تُنتج بذاتها منظومة الأقليّات. نأخذ على سبيل المثال الدستور العراقي، الذي يحدّد أنّ الإسلام هو دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع. والدستور يضمن "الحفاظ على الهوية الإسلاميّة لغالبية الشعب العراقي". فنرى أنّ الدستور يربط تحديد الهويّة بالديانة الإسلاميّة، أمَّا سائر مكوّنات المجتمع، فهي تتمتّع بحقوقها الدينيّة دون المشاركة في تحديد معالم الهويّة الوطنيّة، وإن كان الدستور قد اعترف بتعدديّة القوميّات، والأديان، والمذاهب، واللغات، في العراق. من هنا، نرى أنّ النظام السياسي الذي يميّز بين المواطنين على أساس انتماءاتهم، هو الذي يُنشِئ أقليّات، بمعنى الاختلاف في الانتماء إلى الهويّة الوطنيّة، والتمييز على مستوى الحقوق والواجبات.

إنّ تنامي فكرة الأقليّات في المشرق العربي، يُعبّر إذًا عن أزمة في المواطنة، ناتجة من فشل الدولة-القوميّة من جهة، والتباس في العلاقة بين الإسلام والدولة من جهة أخرى. فقد أنتج هذا الواقع نوعين من الأقليّات: نوع يسعى لأن يخرج من خانة التمييز السلبي، عبر الدخول في الحياة العامة والنضال من أجل تطويرها، لتصبح حاضنة بشكل متكافئ للجميع. ونوع يتمسّك بالهويّة الأقلَّويّة؛ لأنّه لا يثق بالأكثريّة التي وضعَتْه في هذه الخانة، فيتجنّب الاندماج فيها، لا بل يتبنّى هذا التمايز بهدف الحصول على مكتسبات خاصة باسمه، تؤمِّن له قدرًا من الاستقرار أو الازدهار، وإن كان على هامش الحياة الوطنيّة العامة. في حين أن الخروج من أزمة الأقليّات، يتطلّب بناء الثقة بين كافة مكوّنات المجتمع، للتوصّل إلى رؤية مشتركة للعيش معًا ضمن عقد اجتماعي جامع، ونظام ينقل المواطنين من رعايا جماعات حذرة بعضُها من بعض، إلى أفراد فاعلين معًا في المجتمَعَين المدني، والسياسي؛ بهدف الرقي والتنمية المستدامة في سياق المواطنة الحاضنة للتنوّع.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive