الرجوع

هل تصبح دول الخليج علمانيّة؟

الخميس

م ٢٠١٧/٠٨/١٠ |

هـ ١٤٣٨/١١/١٨

بدون أدنى شك، لقد فاجأ السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، الكثيرين في مقابلة أجراها على شبكة PBS التلفزيونية الأميركية بتاريخ 26-7-2017، عندما أعلن بأن "ما تريد أن تراه دول الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين في الشرق الأوسط بعد عشر سنوات، هو قيام حكومات علمانية، ثابتة، مزدهرة وقوية". جاء ذلك في معرض تأكيده تناقض هذا الموقف مع سياسة قطر التي برأيه "لم تتوقّف في السنوات العشرة أو الخمسة عشرة الأخيرة عن دعم منظمات إسلامية مثل الإخوان المسلمين وحماس وطالبان وغيرها من المجموعات الإسلامية في سوريا وليبيا". فاعتبر السفير العتيبة أن هذا الموقف يُمثّل أبعد من اختلاف دبلوماسي مع قطر، بل هو خلاف فلسفي يتعلّق بجوهر الرؤية لمستقبل المنطقة.

يختلف هذا الموقف مع ما جاء في دراسة نشرها في 2-8-2017 معهد بروكنجز للسياسات العامة في واشنطن، والمدعوم ماليًّا من دولة قطر، تخلُص إلى أنّه في العام 2020 سوف يكون احتمال أن يحكم حزب إسلامي بنسبة 53% في تونس، و47% في سوريا واليمن، و39% في ليبيا، و33% في لبنان، و28% في الكويت. واللافت للنظر أن هذه الدراسة تجمع تحت عنوان واحد، ألا وهو "الإسلام السياسي"، الأحزاب الشيعيّة مثل "حزب الله" في لبنان، والحركات الإسلامية السنيّة كالإخوان المسلمين في مصر، والنهضة في تونس. وتعتبر الدراسة أن غياب الديمقراطية ووجود الأنظمة الملكية، يحجّمان الدور الذي يمكن أن يلعبه الإسلام السياسي في الدول العربية.

من المعلوم أنّ مصطلح الإسلام السياسي حمّال أوجه عديدة. وسوف نتبع تعريف دراسة بروكنجز له في هذا المقال، ليبقى التحليل منسجمًا مع مقاربة الدراسة للمصطلح. يقول أحد الخبراء في الدراسة، بأنّه لا يكفي بأن يكون الحكم في بلد ما مستندًا إلى أحكام الشريعة لكي يُعتبر إسلاميًّا، بل يتّجه إلى اعتبار النظام السياسي إسلاميًّا عندما يكون في الحكم حزبٌ إسلاميٌّ، يُعبّر عن تمسّك قاعدة شعبيّة واجتماعية بالإسلام السياسي. بهذا المعنى لا تعتبر الدراسة المملكة العربية السعوديّة دولة إسلاميّة، وإن كان نظامها قائمًا على تطبيق الشريعة. أما تركيا، ذات النظام العلماني، فقد تُعتبر ضمن الدول الإسلامية بفعل حكمها من قبل حزب التنمية والعدالة الإسلامي.

عندما نتبع هذا المنطق، ونجمع بين الخطّين السني والشيعي للإسلام السياسي، نرى أنّه على خلاف ما يظنّ بعضهم، الإسلام السياسي لا يزال يمتدّ ويُعزّز انتشاره في الشرق الأوسط، وكأنه يشكّل "كمّاشة" جيوسياسية على دول الخليج. فإيران وتركيا تُشكّلان شرقًا وشمالًا ثقلًا إسلاميًّا ثابتًا، والعراق يحكمه حزب الدعوة الإسلامي، وحزب الله في لبنان وحماس في فلسطين يلعبان دورًا مؤثّرًا في الحكم، والقوى الإسلاميّة أصبحت المعارضة الوحيدة الفاعلة على الأرض في سوريا. وغربًا، يحكم تحت سلطة الملك حزب إسلامي في المغرب، وحزب النهضة لا يزال يُشكّل في تونس أبرز القوى السياسية، وتحاول الميليشيات الإسلامية في ليبيا فرض ذاتها على المشهدين السياسي والأمني. أما في مصر، فتَراجُع الإخوان السياسي لا يعني اندثارهم في المجتمع، وتعتبرهم دراسة بروكنجز أنهم لا يزالون أكثر الحالات السياسية الاجتماعية تنظيمًا في البلد.

في ضوء هذه الدراسة وتصنيفها "المتفائل" لواقع الإسلام السياسي، يصبح موقف السفير العتيبة أكثر وضوحًا، فهو يرى في هذا الانتشار للإسلام السياسي مشروعًا للوصول إلى السلطة، بناء على فلسفة سياسية، اجتماعية، دينية واضحة. ولذلك، اعتبر أنّ مواجهة هذا المشروع يجب أن تكون على المستوى ذاته، أي الفلسفي الإيديولوجي، باعتماد العلمانية كنظام للحكم. ما يلفت الانتباه، أنّ السفير العتيبة تكلّم عن "حكومات علمانية"، بينما دراسة بروكنجز تتحدّث عن تيارات اجتماعية وسياسية إسلامية، تنتظم بأحزاب تفوز بالسلطة. فهل يمكن مواجهة قوى وأحزاب إسلامية شعبية تنطلق من القاعدة، بنظام علماني يوضع بقرار سياسي في القمّة؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن تكون أنظمة الحكم علمانيّة، دون أن تتبنّى المجتمعات والشعوب هذا المنحى؟

في الواقع، يقتضي التمييز بين مفهوم "العلمانية" الذي يعني استقلاليّة الدولة وحيادها تجاه أي مرجعيّة أو سلطة دينيّة، ومفهوم "الدهرنة" -ويستعمل بعضهم "العلمنة"- الذي يصف استقلاليّة المجتمع والفرد من حيث الفكر والمنظومة القيميّة والخيارات الاجتماعية، عن المؤسسات التقليدية والأعراف، وتَبنّي القيم الليبرالية التي تركّز على حريّة الفرد، وعلى الاستدلال والتنظيم العقلاني لكافة بِنَى المجتمع. بهذا المعنى، يعتبر محمد أركون أنّ العلمنة هي "أوّلًا وقبل كل شيء إحدى مكتسبات وفتوحات الروح البشرية". لذلك شكّل مسار "علمنة" المجتمعات في الغرب رؤية للحياة الفرديّة والحياة العامة، تنبثق منها العلمانية كنظام سياسي منسجم معها. أمّا في تركيا مثلًا، فقد فرض أتاتورك العلمانية كنظام سياسي، يبدو اليوم أنّ قاعدته الاجتماعية والقيمية -بمعنى "الدهرنة"- لم تكن مؤمّنة وثابتة بشكل مستدام. فالصراع الفلسفي المفترض في المنطقة، هو أبعد من صراع على أنظمة الحكم وشكلها الإسلامي أو العلماني، بل يطول المجتمعات بمنظوماتها القيميّة. فهل لدول المنطقة -وخاصة دول الخليج- القدرة على مواجهة هذا السؤال الفلسفي، والولوج في نمط حداثوي للحياة، يؤّمن المواءمة بين السلوك الفردي والاجتماعي، والبنية السياسية للحكم؟ وهل يمكن تحقيق ذلك في أطر غير ديمقراطيّة؟ لا شكّ أن المنطقة العربيّة برمّتها تواجه هذه التحدّيات الأساسيّة، ولن تصل إلى استقرار في مجتمعاتها بدون الإجابة العمليّة عنها.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive