الرجوع

هل تقبل المسيحيّة العمل السياسي؟

الجمعة

م ٢٠١٨/٠٤/٢٧ |

هـ ١٤٣٩/٠٨/١٢

 

من الشائع في مجتمعاتنا، القول بأن الخوض في الشأن السياسي والعمل فيه، يُعتبران معًا أمرًا غيرَ مستحب، مملوءًا بالشبهات، ويُصنَّف صاحبُه بصفات سلبية وقاسية، منها: السرقة، والفساد، والكذب، والمراوغة. فالسياسة عادةً توصَف بِـ "القَذِرة"، وكثيرًا ما تُسمَع أمٌّ تقول لابنها: "حذارِ يا بني! السياسة ليست شأننا، نحن ناس محترمون، ولا قدرة لنا على السياسة، ولا على تحمُّل تبعات العمل فيها".

يَصدر هذا الموقف مِن بعض المسيحيين، على خلفيّة أن أخلاقيات دينهم تمنعهم عن العمل السياسي، وحجمهم العددي الضئيل في أغلب أوطاننا هنا، لا يسمح لهم بالخوض في الشأن العام، مُتناسِين أن "الشأن العام" هو "شأننا العام"، أي نحن وكل المكونات الدينيّة والثقافيّة، التي نتشارك وإياها وطنًا واحدًا.

يمكن تفسير هذا الموقف المنتشر -ولو جزئيًّا-، ما إنْ نُراجع تاريخ بلداننا منذ سنوات خلَت، وُصولًا إلى أكثر من نصف قرن، أو على الأقل منذ استقلال بلداننا عن الاستعمار الأوروبي. تاريخنا منذ ذلك الوقت مملوء بالتدخلات الأجنبيّة، والانقلابات العسكريّة، والأحداث الأمنيّة، مع بعض الحروب الأهليّة، فضلًا عن سيطرة الديكتاتوريات، وغياب الديمقراطيّة والحريات. هذا كله حوّل العمل السياسي عملًا موصومًا بأبشع الصفات، ومرذولًا من شرائح سكانيّة واسعة، بدل أن يكون ممارسة تَكفلها المواطَنة الحقّة.

على خلاف المتداوَل، تقول الكنيسة الكاثوليكيّة في "شرعة العمل السياسي"، التي تستقي مضمونها من "تعليم الكنيسة الاجتماعي": إن "السياسة فنٌ شريف... من أجل تعزيز الخير العام". ويتابع "التعليم"، ليَعتبر المشاركة في الحياة السياسيّة حقًّا مرتبطًا بكرامة الشخص البشري: "فالإنسان أبعد من أن يكون مجرد أداةٍ في الحياة الاجتماعيّة، أو عنصرًا هامدًا وغير مسؤول، بل يجب أن يكون مفعّلها وأساسها وغايتها".

يَصِل تعليم الكنيسة إلى ما هو أكثر من ذلك، معتبرًا المشاركة في الحياة السياسية "واجبة على المسيحيين بِحُكم معموديَّتهم... فالكنيسة تَحوط بالتقدير كلَّ الذين يكرّسون حياتهم لخدمة الخير العام... ومقاومة الظلمِ والاستبداد، والحكمِ التعسفي، والتشدّد المفرط".

تحتلُّ الديمقراطية والعدالة والحرية، مَواقع بارزة في تعليم الكنيسة الكاثوليكية الاجتماعي، عند الحديث بالعمل السياسي الذي تَصِفه بالعمل من أجل الخير العام. ورغم قول المَجْمع الفاتيكاني الثاني (دستور الكنيسة في عالم اليوم)، عن الكنيسة إنها "لا تندمج في الجماعة السياسيّة ولا ترتبط بأي نظام سياسي"، إلا أنه يؤكد حقَّها في إصدار حكم أدبي (أخلاقي) "في الأمور التي تتعلّق بالنظام السياسي، عندما تقتضي ذلك حقوق الإنسان الأساسيّة أو الخير العام أو خلاص النفوس".

"أوسكار روميرو" الذي تسلَّم مهامَّه كرئيس أساقفة السلفادور سنة 1977، في ظل الظروف السيئة التي كانت تجتاح البلاد، لم يَتَوانَ بصفته مسيحيًّا وإكليريكيًّا في المدافعة عن حقوق شعبه، مقتحمًا ميدان ما يمكن أن نصفه اليوم في سياقنا المحلي بِـ "السياسة"، فأدان بشجاعة كل ما كان يمس بحقوق الإنسان من مجازر واغتيالات واعتقالات وتعذيب، ووصل الأمرُ به حدَّ دعوة المجنَّدِين إلى رفض طاعة أي أمر بالقتل.

تُهمٌ كثيرةٌ طالت روميرو في نضاله من أجل شعبه وخيره، كالشيوعيّة، والعمالة لدولٍ خارجيّة، واستمر هو على الرغم من ذلك، منطلقًا من وحي ضميره وتعاليم إيمانه معًا، إلى أنِ اغتِيل سنة 1980 على أيدي مجموعة مجهولة، خلال قدَّاسٍ كان يحتفل به.

شيَّع عشراتُ ألوف السلفادوريين رئيسَ أساقفتهم، في جنازةٍ تَخلَّلها إطلاق الجيش النار على المشيِّعين، مخلّفًا عددًا من الضحايا. الاغتيال المفجع أسكَتَ أصواتَ كثيرين من رجال الدين، الذين كانوا يرفعونها ضد الظلم والانتهاكات، ثم اندلعت في العام نفسه الحرب الأهليّة التي استمرت 12 عامًا، حتى الفاتيكان الذي لم يرحِّب بمواقف روميرو وتصريحاته في ذلك الوقت، عاد بعد ربع قرن ليعلن رئيسَ الأساقفة الشهيد طوباوِيًّا، في خطوة تسبق إعلانه قِدِّيسًا؛ ما يجعله رسميًّا قدوة ومثالًا للمسيحيين.

التعليم الكنسي إذن واضحٌ ودقيق، رغم انتشار المفاهيم الخاطئة. وعليه، يمكننا -أمام قضايا الشأن العام وحقوق الإنسان- أن نتوقع، بل أن نطالب المسيحيين عمومًا، والإكليروس بوجهٍ خاص، بأن تعكس أقوالُهم وبياناتهم وأفعالهم، تعليمَ الكنيسة التي ينتمون إليها ويمثِّلونها.

هذه ليست دعوة إلى الاستشهاد! هي دعوة إلى نزع الوصمة السلبيّة مِن العمل السياسي، وإلى الخوض في الشأن العام في بلادنا التي تقترب الانتخابات النيابية في أكثر من بلد منها، وإلى التذكير بأن "الشهادة للحق" هي السلوك المسيحي الصحيح، لا الصمت، ولا نُصرة الظلم أو التغطية عليه والدفاع عنه.

 

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive