الرجوع

هل تُعدّ الثورة المغربية الصامتة في الحقل الديني أنموذجا للعالم العربي؟

الجمعة

م ٢٠١٧/٠٦/٠٢ |

هـ ١٤٣٨/٠٩/٠٨

يمكن عدُّ الضجة التي أثيرت في المملكة المغربية، حول فتوى المجلس العلمي الأعلى في المغرب بخصوص قتل المرتد، وتراجُع المجلس عنها لاحقًا، مثالًا واضحًا على أهمية توفر إرادة سياسية عُليا لضبط المؤسسة الدينية، من خلال حزمة إصلاحات في الحقل الديني من جهة، وضرورة اقترانها بحراك فكري وفقهي مُوازٍ لتأصيل الإصلاح، من خلال مراجعة التراث الديني بشجاعة من جهة ثانية.

انطوى تراجع المجلس العلمي الأعلى عن فتواه المثيرة للجدل، على مراجعة فكرية مهمة للتراث الديني الإسلامي، إذ منحت الوثيقة التي أصدرها المجلس تحت عنوان "سبيل العلماء"، الردّة (مفهومًا سياسيًا) من خلال ربطها بـ"الخيانة العظمى". واعتبرت الوثيقة أن "ترك جماعة المسلمين لم يكن حينها إلا التحاقًا بجماعة المشركين، خصومهم وأعدائهم في سياق الحروب الدائرة بينهم. فالردة هنا "سياسية"، وليست "فكرية". وأوضحت الوثيقة ذاتها أن القرآن الكريم تحدَّث عن الردة الفكرية في آيات عديدة، ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية، وإنما جزاءً أخرويًّا، كما في قوله تعالى: {ومَن يَرتَدِد منكم عن دينه فَيَمُتْ وهو كافرٌ فأولئكَ حَبِطَتْ أَعمالُهُمْ في الدّنيا والآخرة وأولئكَ أصحابُ النّارِ هُمْ فيها خالِدُونَ}.

يرجع ضبط المؤسسة الدينية في المغرب بشكل عام، إلى إصلاحات الحقل الديني التي أطلقتها المملكة، في أعقاب الأحداث الإرهابية التي شهدتها مدينة الدار البيضاء في آيار 2003، وفي مواجهة تصاعد التيار الديني المتشدد بالمغرب. تضمنت حزمة الإصلاحات: إعادة هيكلة وزارة الشؤون الإسلامية، وتعديل القوانين المتعلقة بأماكن العبادة، وتحديث التعليم الديني، وإنشاء المجلس العلمي الأعلى لتوضيح المواقف الدينية الرسمية وضبط الفتاوى، وإطلاق برنامج واسع لتأهيل الآلاف من أئمة المساجد في المدن والأرياف، وتأهيل عدد من الداعيات.

وكان آخر تعبيرات الإصلاح في الحقل الديني، توقيع الملك مرسومًا ملكيًّا، يمنع بموجبه الأئمة والخطباء وجميع المشتغلين في المهام الدينية، من ممارسة أي نشاط سياسي، ومنع "اتخاذ أي موقف سياسي أو نقابي"، والامتناع عن "القيام بكل ما يمكنه وقف أو عرقلة أداء الشعائر الدينية".

وإذا كانت هذه الخطوات الرسمية حاسمةً لضبط الحقل الديني، في سبيل تعزيز الاستقرار الذي تتسبب بتقويضه فوضى الفتاوى الدينية، وجزءًا من سياسة الإصلاح وفقا لمراحل متسلسلة،  تصل في النهاية إلى هدف عام يخدم تعزيز حرية المعتقد داخل المملكة المغربية، فإنها ترتب نتائج هامة خارج المملكة، تنعكس على عموم بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط الإسلامية.

 فاعتماد المغرب سياسة حازمة ضد التطرف، والتشجيع على التعايش وقبول الاختلاف، وممارسة هذه السياسة على جميع المستويات بما في ذلك النظام التعليمي، خليق بتحقيق نتائج تتجاوز الداخل المغربي.

ومن الأمثلة على سياسة مغربية عابرة للحدود، لتعزيز التنوع، ومكافحة خطابات الكراهية في هذا السياق، خطةُ عمل الرباط بشأن (حظر الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية، التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداء أو العنف)، التي اعتمدتها الأمم المتحدة في اجتماع عقده مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في الرباط بالمغرب في أكتوبر/ تشرين الأول 2012.

المثال الآخر العابر لحدود المغرب، يمثل نقطة أمل لعموم بلدان العالم الإسلامي، ويتجلى في "إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي" لعام 2016، الذي عدّ "صحيفة المدينة" الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات. رافقت إعلان مراكش علامات أمل ووعد، تنطوي على دعوة علماء ومفكري المسلمين إلى العمل على تأصيل (مبدأ المواطنة)، الذي يستوعب مختلف الانتماءات، وحثِّ المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية على القيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية، تتصدى للمضامين المولدة للتطرف والعدوانية.

نعتقد أن الخطوات التي اتخذتها المملكة للإصلاحات في الحقل الديني، وتبنِّي إستراتيجيات لمواجهة خطابات الكراهية، وحماية الأقليات الدينية في العالم الاسلامي، جديرة بالدعم من قبل المجتمع الدولي، ودافعة إلى مزيد من الدراسة والنقاش، من قبل النخب الدينية والعلمانية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فمثل هذه الإصلاحات لن تتجاوز اختبار تحدي الثوابت الفكرية، وكسر الحلقة الحصرية لحرية المعتقد في بعض الأديان السائدة، من دون مزيد من الجهد الفكري، والمؤسسي الرسمي وغير الرسمي، لطرح تفسير واسع لحرية الدين والمعتقد. مع ذلك، يمكن عدُّ هذه الإصلاحات التي أُطلق عليها في الإعلام المغربي تسمية "ثورة صامتة"، خطوة أولى على طريق شاقّ من الإصلاح  الديني، في فترة ما بعد الربيع العربي.

* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive