الرجوع

ولادة الإنسان المستمرّة

الخميس

م ٢٠١٨/٠١/٠٤ |

هـ ١٤٣٩/٠٤/١٧

 

عندما يحتفل الشخص بعيد ميلاده، فهو يحتفل بِعيدٍ لا بذكرى، والفارق بين العيد والذكرى شاسع. الذكرى هي عَود في الذاكرة إلى حدثٍ دخل التاريخ في لحظة معيّنة، وخرج من الحاضر في اللحظة ذاتها؛ أما العيد فهو احتفال بأمر دخل الحياة في لحظة معيّنة، ولا يزال ينمو ويتفاعل مع الحياة، ويُؤثّر في الآخرين، ويتأثّر بهم إلى هذه اللحظة.

في الواقع، لا تصحّ الذكرى إلّا لأشياء أو أحداث أو أشخاص أصبحت ميتة، أي لا حضور لها في الحاضر، إلّا ما تركَتْه من أثر في الذاكرة. وحتى هذا المبدأ، فهو لا ينطبق بشكل دائم، ولا على جميع الميتين. يقول جلال الدين الرومي: "إنْ مُتْنا، فلا تبحثوا عنّا في المقابر بل في قلوب الناس". فلهذا القول دلالة مهمّة، يعني بأنّه حتى الميت يستمرّ حاضرًا في قلوب محبّيه، هذا إن لم نتطرّق أيضًا إلى إيمان الكثيرين بالحياة الأبديّة، أي باستمرار حياة الناس بعد الموت. والحضور هو استمرار في الوجود والحياة وإن بطريقة مختلفة. فكم من ميت له أثر في الحاضر أكثر من كثيرين من الأحياء، وكم من فيلسوف أو حكيم أو فنان أو عالم أو مُلهم أو مرجع ديني، مرّوا في التاريخ وتُوُفُّوا، وهم لا يزالون يحرّكون الحياة عبر تأثيرهم في فكر الناس وقراراتهم وتصرّفاتهم.

خلاصة القول بأنّ حضور الإنسان في الحياة هو حياة بذاته، أي هو نموّ وتفاعل وتغيّر باستمرار. فيخطئ وينحرف كثيرًا عن الواقع وفهمِه، مَن يعتبر الإنسانَ كيانًا جامدًا في عالم متحرّك. ويؤسفني أن أرى أنّنا نحن البشر غالبًا ما نقع في هذا الخطأ، ونستعمل تبسيط الواقع، إلى درجة تجعلنا نتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين وكأنّنا أموات حاضرون في الحياة، بدل أن نرى في ذواتنا وفي الآخرين حضورًا حيًّا ومُحيِيًا، ينمو في الحياة، وتنمو الحياة فيه. فعندما نحتفل بعيد ميلاد أحدهم، نحن لا نحتفل بلحظة الولادة وخروج الإنسان من بطن أمّه، وكأن ذلك بذاته هو الحدث. إذ في هذا المنطق يصحّ الاحتفال أكثر مع الأهل بذلك، وخاصة الأم، أو حتى الفريق الطبي الذي ساعد على الولادة، فهم المعنيّون بالحدث مع ما يحمل من ألم وفرح ، كلحظة من التاريخ. أما المولود الجديد فهو المعنِيّ بالحياة الجديدة التي دخلها، وأدخلها معه في هذا العالم. الاحتفال بعيد الميلاد هو إذًا الاحتفال بالحياة كولادة مستمرّة، تبدأ لحظة الدخول إلى العالم بتاريخ محدّد، وتستمرّ بالنمو والتحوّل والتأثير فيمن حولها، ولا تنتهي مع خروج الإنسان من هذا العالم بموته، لا بل قد تنتهي مأساويًّا بخروج الإنسان من الحياة ومن حياة الآخرين، بعد موته أو قبله، فينطفئ حضوره، وينتهي وجوده من الذاكرة والحياة معًا.

تسمح لنا اليوم التكنولوجيا بمتابعة تكوّن الإنسان في بطن أمّه، ومشاهدة هذا النمو بفرح ودهشة في مراحله المختلفة، إلى لحظة خروجه وانفصاله عن جسد والدته، ليتابع نموّه في الحياة باستمرار، ويستمرّ في ولادة ذاته.

فعندما يخطو أولى خطواته على رجليه، تتجدّد ولادته في الحياة، فيرى الوجود مختلفًا، ويراه الآخرون بشكل جديد.

وعندما يدخل المدرسة، وينتقل بذلك من بيئته العائلية إلى البيئة الاجتماعية الوُسعَى، يولد من جديد عبر علاقاته، واكتشافاته، وخبراته.

وعندما يتخرّج في المدرسة ويدخل عالم الجامعة، يولد أيضًا من جديد، ويتّسع أفق حياته مع نمو طموحه إلى المشاركة الفاعلة في الحياة، والتأثير فيها مهنيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا.

وعندما يعيش أول علاقة حب، يولد من جديد عبر اكتشافه لهذا البعد في حياته، وفي العلاقة بالشخص الآخر الذي يريه من خلاله جمال حياته خارجًا عنه، أي جمال حياته في الآخر ومعه.

وعندما يعيش أول خيبة أمل، ويتصارع مع ذاته التي تريد أن تَخرج من قيود ذاتها أو قيود الآخرين عليها، يولد من جديد عبر إدراكه أنّ الحياة طاقة متجدّدة، ومساحة للمغامرة لا حدود لها.

وعندما يعطي مجَّانًا من ذاته لأول مرّة، يولد من جديد عبر اكتشافه أنّ الحياة لا تُقاس بحجم الممتلكات أو الإنجازات، بل بحجم التحرّر الداخلي من كل شيء حتى من الذات، والاستعداد للعطاء حتى عطاء الذات.

وعندما يبدأ في ممارسة مهنة، وفي العمل مع زملاء وشركاء، يولد من جديد لأنّه يكتشف طاقاته، ودوره في المساعدة على ولادة الحياة اليومية للجميع.

وعندما يسافر لأول مرة، يولد من جديد في اكتشافه لغنى العالم في طبيعته، وشعوبه، وحضاراته.

وعندما يَلِد ويعطي الآخرين الحياة، يولَد من جديد عبر المولود الجديد، الذي لا يحمل من جيناته وحسب، بل الأهم هو ما يحمله في ذاته كجزء من حياته، ويعتني به ويرافقه حتى يستقلّ بذاته.

فإذا كان الإنسان يولد بهذا الشكل باستمرار، فكيف لنا أن نسجنه في قالب من التصوّرات الجامدة، أو نأسره في هويّة دينيّة أو وطنيّة أو إيديولوجيّة أُحاديّة قاتلة؟! إنّ انتماءات الإنسان المتعدّدة: الوطنيّة، والثقافيّة، والدينيّة وغيرها، هي جزء من حياته، وله أن يفتخر بها. ولكن، ليست هذه الانتماءات هي التي تحدّد ذاته وهويّته، بل إنّه هو ذاته صاحب هذه الهويّة الإنسانيّة الفريدة، التي تحيا وتتفاعل عبر انتماءاته، وعلاقاته، وخبراته المختلفة.

* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *

مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.

إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.

الكلمات الدليلية

جميع الحقوق محفوظة © 2024
تصميم وتطوير Born Interactive