تُثير القضايا المجتمعية/الدينية عادةً، الكثير من اللغط والجدل، حين تقترب -بشكل أو بآخر- من التفاعلات الدينية البَيْنيَّة، خاصة حينما تَحمل أبعادًا ثقافية متوارَثة، تتقاسم أديانًا ورسالات سماوية، تَبحث كلُّ واحدة منها عن الحضور والتمايز، اللَّذَين يُتيحان لها تَمركُزًا وتأثيرًا كبيرَيْن، في عُمق مُحيطها المَعِيش.
كانت "آيا صُوفيا" بما تحمله من رمزية تاريخية في داخل تركيا وخارجها، واحدةً من تلك القضايا التي لا تزال تَحمل أبعادًا ورمزيّات شائكة وأكثر حساسية على مستويات عِدَّة، مجتمعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، على فترات متقطعة؛ ما جعلها دائمًا تتجاوز أهمِّيَّتها المحلِّيّة، لتصبح مَثار نقاش على مستويات دُوَليّة وعالميّة، وتحديدًا من حيث وضعيَّتها الدينية.
نُسجَت "آيا صوفيا" كـ"لوحة" بيد الحضارتَين: البيزنطية المسيحية، والعثمانية الإسلامية، عبْر أطوار تكوينية رافقَت تاريخَها الطويل منذ بنائها في عام 532هـ، حتى عُدَّت الكنيسةَ الرئيسة في القسطنطينية (عاصمة الإمبراطورية)، وجوهرة الأباطرة البيزنطيِّين؛ ما جعلها تكتسب رمزية دينية وسياسية مهمَّة. وحينما دخل السلطان محمد الفاتح المدينة بعد حصارها، أَطلق عليها اسم "إسطنبول" عام 1453، ثم شرَع في تحويل "آيا صُوفيا" إلى مسجد يُرْفع فيه الأَذان وتُمارَس فيه الشعائر. وعندما رافقَت التحوُّلاتِ التي شهدَتها تركيا بالانتقال إلى النظام الجمهوري، أصبحت "آيا صُوفيا" مُتحفًا عام 1932.
مِن وقت إلى آخَر، تتصاعد الدَّعَوات والمطالَبات مُثيرةً النقاشات حول هُويّة "آيا صُوفيا" الدينية، والتمَوضُع المفترَض أن تكون فيه بين ثلاثية الأضداد (الكنيسة، والمسجد، والمُتحف). وحديثًا، تَوالت التصريحات وتواترت الأخبار حول إمكانية إقرار "آيا صُوفيا" مسجدًا، ثم جاءت حادثة نيوزيلندا الإرهابية لتزيد من وهج هذه الدعوات، خاصة بعد نَشْر ما حوَته رسالة المنفِّذ، من وعيد بأن كنيسة "آيا صوفيا" ستتحرر من مَآذنها. وهذا الاستدعاء في اللحظة الراهنة يثير كَمًّا من التساؤلات، حول ما يَعكسه هذا الجدل حول "آيا صوفيا" ورمزيّتها الدينية والثقافية والمجتمعية، ومدى مركزيّة الدِّين والتحوُّلات المجتمعية دينيًّا، في واقع تركيا الحديث.
إن المُراقِب للمشهد المجتمعي التركي خلال العقد ونصف العقد الماضي، يَلحظ -بشكل لا لبس فيه- حجم الصعود الديني المحافظ. وحقيقةً، لم يكن ذلك مِن جرَّاء تحوُّلات سياسية عايشَتها الدولة التركية وحسب؛ إنما كانت هناك إرهاصات سابقة له، ارتبطَت بشكل أو بآخر بممارسات التديُّن الشعبي، من شعائر وعادات كانت بمنزلة فاعل ديني، بالتوازي مع تأثيرات الطُّرقية الصُّوفية وتَمظْهُراتها الواضحة التأثير مجتمعيًّا؛ ما كان له وَقْعٌ في ترسيخ "الهُويّة الإسلامية"، التي بِدَورها ارتفع معها ترمومتر المحافظة–الدينية/الإسلامية.
على الضَّفّة المقابلة، لعبَت أجواء أخرى مرتبطة بالسياق القائم، دورًا بارزًا في تنشيط الهُويّة الدينية، في فضاء يُحْكم بقوانين (مدنيّة/علمانية)، وحظِيَت هيئة الشؤون الدينية التركية الرسمية (Diyanet İşleri Başkanlığı T.C. Cumhurbaşkanlığı) بِحُرِّيّة الحركة خلال العقد الأخير، حتى أضحت ذات تأثير مجتمعيٍّ بالغ الأثر، واشتبكت في كثير من القضايا السياسية والدينية هناك. ونستدلُّ على ذلك بما ذكَره مركز دراسات واشنطن، في تقريره المُراقِب للتحوُّلات الدينية، مِنْ أنَّ العلمانية التي انتهجَتها تركيا عَقْب تَحوُّلها إلى النظام الجمهوري، بدأت بالفعل تَفقد بريقها؛ استدلالًا بتأثيرات المؤسَّسة الدينية هناك.
تَدفع تلك المشاهداتُ، إلى خلاصات دقيقة في فهم النقاش القائم حول "آيا صوفيا" وجدليَّتِه الدينية، خاصة في الداخل التركي. وذلك أن القضية البَيْنيَّة في جوهرها، ليست كما يُصوَّر على كَوْنها معركة بين الإسلام كـ"دين" مُمثَّلٍ بـ"الأتراك المسلمين" من جهة، و"المسيحية" كديانة عالمية مع مُعتنقيها شرقًا وغربًا من جهة أخرى. بل يمكن القول: إنها تَعكس حجم التنافسية حول هُويّة الدولة التركية الجديدة، بين قُطْبَي التنافسيّة وطرفَيْها في الداخل، بتمثُّلاتهما الحزبية: "الإسلاميون المحافظون"، والقوى العلمانية المناوئة لهم، خاصة إنْ تَفهَّمْنا أن قرار تحويل "آيا صوفيا" إلى مُتحف هو قرار كماليّ بامتياز، فضلًا عن أنَّ آخِر قُدَّاس أقيمَ في "آيا صوفيا" كان في القسطنطينية عام 1453. وهو ما يُبعد فرضيات المواجهة فيما بين الإسلام والمسيحية.
ثمَّة نقطة أخرى تُضاف إلى سابقة، مِن كَوْنها رسالة إلى الغرب وخاصة الاتحاد الأوروبي، مُفادها: أن تركيا وإن كانت راغبة في اللحاق بالاتحاد الأوروبي، إلّا أنها لن تَخلع أو تَنفي عنها هُويّتها الدينية الإسلامية، كما حدث في عقود سابقة؛ إذ إن الجمهور المحافِظ من مُسْلمي تركيا، لا يزال يرى أحقِّيّة "آيا صوفيا" بتثبيت هُويّتها الإسلامية العثمانية.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.