بعيدًا عن الأسئلة الفقهية التي تُعاوِد الظهور في مطلع كل شهر رمضان، نضع أمامنا بعض الأسئلة التأسيسية التي تتصل بالصيام، وأبعادِه التشريعية وسياقاته الاجتماعية في الإسلام: لماذا تأخَّر تشريع الصيام في الإسلام إلى السنة الثانية للهجرة؟ وما أوجُه الشبه في الصيام بين كل من الإسلام وشرائع أهل الكتاب؟ وما الحكمة من الصيام في كل من الإسلام وشرائع أهل الكتاب؟
بحسب الترتيب التاريخي لأركان الإسلام العملية، فقد فُرضت الصلاة على أرجح الآراء قبل الهجرة بسنة ونصف، ثم فُرضت الزكاة وصيام رمضان في السنة الثانية للهجرة، والحج في السنة التاسعة أو العاشرة للهجرة. وخلافًا للاعتقاد الشائع بين الناس أن بداية صيام المسلمين كانت بعد الهجرة إلى المدينة، نجد في المَروِيَّات أن قُرَيشًا كانت تصوم يوم عاشوراء قبل الإسلام، وأن رسول الله صامه قبل الهجرة إلى المدينة.
وفي مقابل هذه الرواية نجد حديث ابْنِ عَبَّاسٍ: "أنَّ النبيَّ صلَّى اللَّه عليهِ وسلَّم لمَّا قدم المدينةَ وجدهم يصومون يومًا، يعني عاشُوراءَ، فقالوا: هذا يومٌ عظيمٌ، وهو يومٌ نجَّى اللَّه فيه موسى وأغرقَ آل فرعونَ، فصامَ موسى شكرًا للَّه، فقال: أنا أولى بموسى منهم، فصامهُ وأمر بصيامهِ" (البخاري). وتتضمن هذه الرواية من حيث وقوعُها بعد الهجرة، ومضمونُها، نوعًا من التشبيه بين نجاة موسى عليه السلام وبني إسرائيل من فرعون، ونجاة النبي محمد وأصحابه من قريش.
ومما يجدر الالتفات إليه أن النبي، كان يحب موافقة أهل الكتاب في ما لم يُؤمَر به. فالنبي كان يصوم قبل الهجرة إلى المدينة، لكنه أراد تأليف قلوب اليهود واستدراجهم، كما هو الحال في استقبال قِبلة بيت المَقدس، وصيام عاشوراء، ولكنَّ تحوُّلًا كبيرًا جرى في اتجاه هذه العلاقة بدايةً من السنة الثانية للهجرة، حيث بدأت تظهر ملامح التميُّز عن اليهود، من خلال فرض صيام رمضان، وتغيير القِبلة إلى البيت الحرام في مكة.
جاء تشريع الصيام في ذات الفترة التي فيها تشريع القتال، وربما تكون الحكمة من ذلك ألَّا تتمكن غريزة القتل من نفس المسلم، فيغدو كائنًا بلا رحمة ولا شفقة. فالصيام يرقِّق القلب، ويعمِّق شعور الإنسان بالعفو والرحمة.
لعل السبب في تأخُّر تشريع كل من الزكاة والصيام والحج إلى مرحلة ما بعد الهجرة، يعود إلى أنها تمثِّل شعائر ذات طبيعة اجتماعية، تتصل بتطور المجتمع والعلاقات الإنسانية، أكثر مما هي مقرراتٌ دينية مجرَّدة، أو قيم روحية تتصل بعلاقة الفرد بالله. وأيضًا يُلمَّح إلى أن التدرج التشريعي في الإسلام لا يقتصر على الفروع الفقهية التفصيلية، وإنما يمتد إلى الأركان الأساسية للدين بشكل عام.
لم يزعم القرآن أن عبادة الصيام هي عبادة مخصوصة للمسلمين، وإنما أكد أنها من العبادات التي سبق أن كُتبت على أهل الشرائع السابقة: {يا أيُّها الَّذين آمنُوا كتب عليكمُ الصّيامُ كما كتبَ على الَّذين من قبلكم لعلّكم تتَّقون} [البقرة: 183].
لم يَرِد لفظ الصوم في الأسفار الخمسة لموسى، لكن هذه الأسفار ذكرَت يومًا واحدًا للصوم لجميع اليهود، وهو اليوم العاشر من الشهر السابع (يوم الكَفَّارة)، ويكون بالامتناع عن الطعام والشراب من غروب الشمس إلى غروبها في اليوم التالي، خلافًا لسائر صيامهم الذي يبدأ من الشروق، وينتهي بالغروب.
للصوم غايات عديدة بحسب الكتاب المقدس، أهمها التوبة والرجوع إلى الله: "ولكن الآن، يقولُ الرَّبُّ، ارجعُوا إليَّ بكلِّ قلوبكم، وبالصَّومِ والبُكاءِ والنَّوحِ" (يوئيل 2: 12). ومن مقاصده إظهار الخضوع والتذلل لله، من خلال لُبسِ المُسوح ونثر الرماد (انظر دانيال 9: 3). ويَذكر (سفر إشعيا 58) أن الصوم الحقيقي لا يقتصر على ترك الطعام والشراب، بل يتعدى ذلك إلى الإعراض عن الإثم واللذات المحرمة، والإقبال على عمل الرحمة.
يركِّز الإنجيل على أن المقصد الأساسي للصوم هو إخلاص النيّة لله، بعيدًا عن التباهي: "وأمَّا أنتَ فمتى صمتَ فادهن رأسكَ واغسل وجهكَ، لكَي لاَ تظهَرَ للنَّاسِ صائمًا، بل لأَبيكَ الَّذي في الخفاءِ. فأبُوك الَّذي يرى في الخفاءِ يجازيكَ علانيةً" (متّى 6: 17 – 18). وتذكِّرنا هذه الآيات بالحديث القدسي: " كلُّ عملِ ابنِ آدمَ لهُ إلَّا الصِّيام فإنَّه لي وأنا أجزي بهِ..." (البخاري). وهذا كله يؤكد أن المقصد الأول للصوم هو إخلاص العبادة لله، وهو ينسجم والمدلولَ الأعمق للتقوى، التي جعلها الله غاية الصيام في كتابه العزيز، كما سائر أشكال العبادات والطاعات التي يحبها ويرضاها.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.