شكَّل الهجومُ الإرهابي الدَّموي على مسجِدَين بنيوزيلندا يوم الأحد 17 آذار/مارس، والذي خلَّف خمسين قتيلًا وعشرات الجرحى، صدمةً كبرى للضمير الإنساني، وللمؤمنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية.
يمثِّل الحادث إشارة إلى تنامي عقيدة العنف في الفكر اليميني المتطرف، وتَرسُّخ إيديولوجيا الكراهية والإقصاء ضد المسلمين، بل حتى ضد المهاجرين عمومًا؛ إذ أشار السَّفّاح في بيان نشَره، إلى مجموعة أحداث تَرجع إلى العصور الوسطى، كما لو أن الأمر يتعلق بنسخة حديثة من الحروب الصليبية. أيضًا برَّر الإرهابي فَعْلَته بأنه ينتقم لآلاف ضحايا الغُزاة المسلمين، بل حتى للمسيحيِّين، الذين قتلهم تنظيم الدولة الإسلامية، وقام بتهجير بعضهم.
بعد ذلك، شهِدْنا عودة النقاش حول نظرية صدام الحضارات والأديان، وتحدَّثَت بعض الخطابات الكارثية بعولمة الكراهية والإرهاب، وبولادة المسيحوفوبيا كمقابل للإسلاموفوبيا. ثم إن تنظيم "داعش" حاول استغلال الهجوم الإرهابي، للتحريض على الانتقام وجهاد الغرب الصليبيِّ الكافر. لكني أعتقد أن نظرية صدام الأديان مجرَّدُ فكرة متهافتة، وأن الأجدر أن نتحدث بصدام الجهالات، وذلك على الرغم من تنامي العنف الممارَس بِاسْم الأديان.
غير أن الأحداث التي تَلَت عملية القتل الجماعي، أثبتت أيضًا أن الحُبّ والتعاطف يُمْكنهما كسر دائرة العنف، بل وأثبتت أيضًا كيف أن العنف يغيِّر الأديان بعمق، عندما يجعلها تعي إلى أيِّ حدٍّ نحن متشابهون من خلال إنسانيتنا المشتركة. ففي "مانشستر" شخص بريطاني يقرِّر البقاء خارج المسجد لحراسة المسلمين، وهم يقيمون صلاتهم، حاملًا لوحة كتَب عليها "أنت صديقي، سأقوم بحراستك وأنت تصلِّي". وفي "روتردام" الهولندية مجموعة أشخاص مسيحيِّين، قاموا بتطويق المسجد أيضًا لحماية المصلِّين. وقرَّرت الجالية اليهودية إغلاق معابدها بنيوزيلندا، تضامُنًا مع الضحايا المسلمين. وفي بلدة "باري" بولاية أونتاريو بكندا، لم تَمْلك "إيناس" الشجاعة على ارتياد المسجد، فأصرَّت جارتها المسيحية "ميبل" على أن ترافقها، بل وعلى أن تَحضر معها الصلاة.
لكني أعتقد أن أسمى التعبيرات التعاطفية، هي عندما أعلن زوج إحدى الضحايا أنه يسامح قاتل زوجته، قائلًا: "أصلِّي له، ولا أحمل تجاهه أيَّ ضغينة". فعندما تتعاطف الضحية مع الجلَّاد، فإن ذلك يعني أيضًا أنَّ قوّة العنف، يُمْكن أنْ تَكسرها قوّة القدرة على الغفران.
لكنْ قَبْل ذلك، ثَمَّة أحداث أخرى تكشف كيف أن العنف الذي يمارَس بِاسْم الدين، قد يشكِّل فرصة للمؤمنين كي يجسِّدوا أسمَى تعاليم دينهم. فقد قام المواطن الفلبِّيني نور لقمان سنة 2017، بإنقاذ 64 مسيحيًّا خلال محاولة استيلاء تنظيمٍ إرهابيّ مُوَالٍ لداعش، على مدينة مراوي في جزيرة "مينداناو" الفلبِّينيّة. وقَبْله قام الأمير عبد القادر الجزائري سنة 1860 بدمشق، خلال فتنة طائفية، بالدفاع عن المسيحيِّين في أحيائهم وكنائسهم، بل وقام بإيواء بعضهم في بيته ورفَض تسليمهم، قائلًا للمهاجمين: "أيها الأشقياء، أهكذا تعزون نبيكم؟ العار لكم، لن أسلِّمكم مسيحيًّا واحدًا. إنهم إخوتي".
يمكن أن نقول أيضًا: إن العنف يغيِّر الأديان بالمعنى الإيجابي، عندما يَكشف عن قدرتها الأخلاقية العميقة على مشاركة مآسي الآخرين. هكذا، تَفشل مشاريع الحقد والكراهيَة، لأن المؤمنين -حتى غير المؤمنين- يكتشفون في داخلهم "رأسمال" لا يَنْضبُ من الحبِّ والاحترام. فتنطلق كلُّ هذه السلوكات الخيرية من القاعدة الأخلاقية العامة، وهي أن نرفض للآخرين ما نرفضه لأنفسنا (التبادلية)؛ ما يسمح ببناء المسؤولية الأخلاقية والدينية تجاه الآخرين. وإنْ نحن تأمَّلْنا هذه السلوكات، فنَراها قد تؤدِّي إلى تغيير عميق في فهم أدياننا، وتمنحنا القدرة على إعادة فهم جوهر الدين، وترجمة الإيمان إلى الإنسان.
قد يقول قائل: إن أشكال الخير التي تلَت الفاجعة، هي مجرَّد ردود أفعال عاطفية، لن تغيِّر شيئًا من مَوجة الكراهية التي تجتاح عالمنا. يدلُّ على ذلك، أن المجزرة حدثت بعد أيّام من "وثيقة الأُخوَّة الإنسانية"، التي وقَّع عليها شيخ الأزهر وقداسة البابا فرنسيس. لكننا نعرف أيضًا أن طريق بناء الأُخوَّة الإنسانية الحقَّة لا يزال طويلًا، لأن الكثير منَّا يعيش في دينه أو هُويّته، كما لو كان في قلعة تَفصله وتحميه من الآخرين.
يقول مولانا جلال الدين الرُّومي، مردِّدًا كلمات معلِّمه شمس التبريزي: "لا شيء أسهل من الكراهية، أمَّا الحُبُّ فيحتاج نَفْسًا عظيمة". لذا، فإن التحدِّي الأخلاقي الذي يجب أن تَرفعه كلُّ الأديان، هو أن تُحرِّر طاقة الحبِّ والتعاطف تجاه أولئك الذي لا يشاركوننا في عقائدنا، لأن المعنى الأعمق للإيمان القويم، هو ذلك الإيمان الذي يجعلنا نعيش الخلاص من خلال الآخَر، بل ولأنَّ حُبَّ هذا الآخر، قد يكون أكبر الأدلَّة على وجود الله.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.