إنْ سألت الناس في الدول العربية عن المواطنة، تتوزّع أكثرية أجوبتهم على موقفين، أحدهما حقوقي والآخر عاطفي. فيقول بعضهم بأن المواطنة تكمن في التمتّع بالحقوق والالتزام بالواجبات وفق قوانين البلد الذي نعيش فيه، وبعضهم الآخر يعتبر المواطنة تقوم على حب الوطن والتضحية في سبيله. مع أهميّة هذين الجوابين لما يُعبّران عن ارتباط مسؤول بالكيان الوطني، ورغبة في خدمته، وصولًا إلى شهادة الدم في سبيله، إلّا أنني أعتقد أنّهما -أعني الجوابين- يشكّلان جزءًا من مشكلة المواطنة في منطقتنا. ففي كِلا الموقِفَين عَطبٌ أساسي يكمن في سوء فهم المواطن للوطن وللمواطنة، وفي انفصال بين الواقع الوطني والالتزام المواطني.
أعتقد أنّه بسبب هذه التعريفات المغلوطة للمواطنة، تعيش مجتمعاتنا ثورة سلبية. إنّها للأسف ثورة على المواطنة. كيف لا، ونحن نتوقّع من المواطن أن يعتبر حالة حقوق الإنسان المتردّية في كثير من دولنا، وما يرافقها من واجبات عبثيّة أو رجعيّة، تحقيقًا لمواطنيّته؟!
المواطن في الدول العربية لا يريد أن يكون مواطنًا؛ لأنّ في هذا الشكل من "مواطنة الحدّ الأدنى" تمنينًا لحقّه وقهرًا لكرامته. لهذا السبب يعيش كثير من الناس ما أسميته "بالثورة السلبيّة"، التي بدل أن تنتفض ضد من هم وراء حالات القهر والظلم هذه، تنتفض ضد مفهوم المواطنة بذاته، وتُوقِع المواطنين في حالة من الإحباط والاستسلام. يؤدّي ذلك، بشكل غير واع، إلى انكفاء الناس إلى صفات التابع لدى بعضهم، يستَجْدون خيرهم عند زعيمهم، وصفات المستهلِك لدى بعضهم الآخر، ينهشون ما وصلت إليه أيديهم من خيرات بلا مبالاة، وبأنانيّة.
أمّا عندما نعرّف المواطنة بأنّها حب الوطن والتضحية من أجله، في دول تضحّي فيها السلطات السياسية بقِسم من أبناء الوطن لسبب عدم ولائهم لهذه السلطة، أو لمجرّد انتمائهم الإثني أو الديني المختلف، أو لتهميشهم الاجتماعي والاقتصادي، فإنّ هذا المفهوم يصبح دافعًا إلى المزايدات الشعبويّة، ووقودًا للحروب الأهليّة.
فلا يمكن أن تكون المواطنة استجداءً لحقوق منقوصة، ولا محبّة لوطن قائم على ظلم أنظمته، بل المواطنة الحقّة هي في وعي المواطن للواقع الذي يعيشه، وفي سعيه ونضاله لرفع هذا الواقع إلى مستوى الرقي الإنساني، والعدالة الاجتماعية، اللذَين يحقّقان كرامته ويجسّدان طموحه. ولأنّ هذا الطموح يشكّل أفقًا مفتوحًا، يدفع بالواقع باستمرار إلى الأمام وإلى الأعلى، فالمواطنة تُصبح مرادفة للتنمية المستدامة.
لذلك، عندما ينتقل المواطن من دور "المفعول به" إلى دور "الفاعل"، لا يَعود يقبل أن يتلقّى حقوقه من سلطة مسؤولة عنه، بل يحدّد بنفسه حقوقه أمام سلطة مسؤولة أمامه. عندها تنتقل المواطنة من حالة، في غالب الأحيان، مُزْرية، إلى فعل للتطوير، ومقدرة على التغيير، وإرادة للعيش الكريم.
المواطن الحقيقي هو إذًا المناضل الذي لا يقبل القوانين عندما تكون جائرة، ولا ظُلم الأنظمة الفاسدة. مناضل، لا يعني ثائرًا عبثيًّا يدمّر ما هو مدعوّ إلى تنميته، ولا ظالمًا يحوّل قهره إلى ردّات فعل سلطويّة في دوائره الاجتماعية الضيّقة، كالعائلة، أو العمل، أو الشارع والحي.
إذا كنت تريد أن تكون حقًّا مواطنًا، فأَرِنِي قدرتك على التغيير البنّاء، الذي ينهض بالمجتمع نحو مزيد من الهناء والعدالة. وإن كنت غير قادر على ذلك، أو لا ترغب في هذا الدور، فلا تُرغم نفسك على ما لست أهلًا له، ولا تدّعي ما أنت لست منه. فخير لك أن تكون تبعيًّا جاهلًا بمفهوم المواطنة وكرامة المواطن، من أن تكون مدّعيًا المواطنة وأنت تابع، مستسلم لواقع مُنافٍ لكرامتك وكرامة شعبك. في هذه الحالة يتحوّل الانفصال بين الواقع الوطني والالتزام المواطني إلى انفصام في شخص المواطن ذاته، ويغدو الواقع وهمًا خادعًا، والالتزام شعارًا فارغًا.
المواطنة مقدرة، لكنها لا تكون فعّالة إلّا جماعيًّا، والفرق شاسع بينها وبين الإمكانات الفرديّة. لذلك يمكن أن نرى من هو ناجح جدًّا على الصعيد الفردي، ولكنّه بعيد كل البعد عن الالتزام المواطني.
المواطنة مقدرة ممكنة لدى كل إنسان، إنِ اعترف أوّلًا بأن كرامة الآخرين هي جزء لا ينفصل عن كرامته، وإنِ اقتنع ثانيًا بأنّ خيره الشخصي يمرّ عبر تحقيق الصالح العام، وإنِ التزم ثالثًا بالنضال البنّاء عبر الإسهام في تكوين الرأي العام الفاعل، ورفع مستواه إلى درجة تخاف منه السلطة السياسية، وتحرّر كل مواطن من الخوف من هذه السلطة. بهذا المعنى، المواطنة مقدرة مصدرها وقوتها في ممارستها. فلا تنتظر أن تصنع المواطنة مواطنين. بل المواطنون الحقيقيّون هم الذين يصنعون المواطنة.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.