علاقات العمل -في كثير من الأحيان- تكُون مَبنيَّة على الاستغلال، لارتباطها بمنطق السلطة والهيمنة من جهة، وبالحاجة والضرورة من جهة ثانية. فهي علاقات بين رئيس(ة) ومَرؤوس(ة)، ومدير(ة) وموظَّف(ة)، ومَن يَملك ومَن يعمل، لا سيّما إنْ تخلّلَت العلاقةَ الشُّكوكُ والظّنون. فيَعتبر ربُّ(ة) العمل أن العامل(ة) يخُونه، أو لا يعمل كما ينبغي، وكذلك العامل(ة) يَعتبر أنّ رئيسَه/تَهُ يستغلُّه ويُرهقه.
الصَّرامة والتسيُّب، يكُونان أحيانًا وجهَين لعُملة واحدة. فبالصَّرامة والتشدُّد، نظنُّ أننا نحصل على أفضل ما يمْكن أن يُعطيه مَن هو/هي تحت سُلطتنا، وأنه مِن دون ذلك، فإن العمل لا يمكنه أن يَبلغ أقصى قدراته الإنتاجية، في حين نَعلم أنه مهْما بلغَت سلطتُنا ورَقابتنا، فإننا لا يمكن أن نسيطر تمامًا على الوضع بـ"العين الحمراء". فبمُجرَّد ما يجد الموظف(ة) فرصة للتَّفلُّت من الرَّقابة، فإنه(ها) يفعل. فلا أحد منَّا يرضى بالأجواء المشحونة الضاغطة.
كيف يمْكن "الانقلابُ" على منطق السلطة، وبناءُ علاقات عمل إنسانية وإيجابية؟ لعلَّ الحلّ يَكمن في عقد عملٍ مَبنيٍّ على الثقة المتبادلة. فالإنسان شديد التأثُّر بنظرة الآخرين إليه؛ إذْ نظرةُ الرِّيبة قد تَدفعه إلى ارتكاب ما يُخشى منه، ما دامت التُّهمة قد الْتَبسَت به، حتى قبْل أن يفكّر فيها. وكأنَّ ذِكر المحظور يحرِّض عليه ويدفع إليه، حتى باتت القاعدة هي أنَّ الإنسان متَّهم حتى تَثبت براءته، وليس العكس، في حين تُشجّع علاقاتُ الثقة والاحترامِ الإنسانَ على إخراج أفضل ما فيه، بل تدفعه إلى أن يحسِّن مهاراته، حتى لا تزول عنه عين الرضا، وحتى لا يُخيّب ظنَّ من أحسن إليه. هذا ما نلحظه حتى بين الأطفال. فالثقة تحميلٌ للمسؤولية، ومَدْعاةٌ للنموّ والنُّضج. فيصبح مثلًا الصغير(ة) كبيرًا(ة) بثقة والدَيه(ها)، ومَن علّمه(ها). أمَّا الشكّ، فهو يعامل الكبار كالصغار، وكأنهم قُصَّر غير مسؤولين/ات، يتحلَّلون من حمل المسؤولية عند أول فرصة سانحة، وبمجرَّد غياب عين الرقيب.
النقطة الثانية الهامة في تحسين علاقات العمل، هي: الشَّراكة والشعور بالانتماء إلى مشروع. فيتحوّل العمل من ضرورة حياتية للكسب، تعُود بالخير على صاحبها وعلى من يَعُوله، إلى غاية مشترَكة ورؤية جامعة، لكلِّ من يشترك في العمل. وهذا يكُون بالتشجيع والتحفيز المادِّيَّين والمعنويَّين، اللَّذَين قد يأخذان أشكالًا متعدّدة، مثل: المشاركة في الأرباح -ولو جزئيًّا-، والمشاورة وتبادُل الآراء والمعلومات في شكل منظَّم، عبْر مجالس يشارك فيها ممثِّلو/ات العمّال/العاملات، ويكُون لهم فيها دور في اتخاذ القرارات، التي -على الأقلِّ- لا تَنزل عليهم من فوق أو على حين غِرَّة؛ إذِ التنفيذ تصحبه رؤيةٌ مفسِّرة للغايات والأهداف. وأحيانًا، تكفي كلمة شكر، حتى لا يَشعر الإنسان بأن سيئاته معدودة، وحسناته مَنسيَّة.
أَنْسَنة فضاءِ العمل ليست قضيّة حقوقيّة فحسْب، بل إنها تَصبُّ مباشرة في مصلحة العمل والعاملين/ات، ومِن ضِمنها مصلحة ربّ(ة) العمل. وفضاءُ العمل لا يقتصر على العلاقات الشخصية، بل يشمل الجدران والمكاتب والآلات والروائح. وقد أثبتت التجارب فعَّاليّة صبغ الجدران بألوان زاهية متفائلة في معنويات العاملين/ات، عِوَض قتامة الألوان الرمادية واتِّساخ الجدران، نتيجة إهمال البُعد الجماليّ. وكما جاء في الحديث النبوي: "إنَّ الله كتَب الإحْسَانَ على كلِّ شيء". فالإحسان يشمل معنى الإتقان وإجادة العمل، ولكنه أيضًا ينطوي على البُعد الجماليّ، الذي ينبغي أن يَسري في كلِّ التفاصيل.
كثيرًا ما تكُون الرئاسة والقيادة، مِحَكًّا يكشف نوعية الإنسان، فيفضح عيوبه ويضخِّمها، أو يُبرز مواهبه ويرفعها. فمَنْ يُعَانِ عقدةَ النقص ووسواس الشَّكّ، وعدمَ الثقة بالنفس، أو الغَيْرة والحسد، أو غيرها من اضطرابات النفس والشخصية، أو لديه(ها) ضعف في التكوين والتدريب - فكُلُّ ذلك سرعان ما يَبرز للعيان، بمجرَّد ممارسة المسؤولية والتَّرَؤُّس على الآخرين؛ ما يسبِّب معاناةً كبيرة للجميع، و"يُكَهْرب" أجواء العمل، ويحوِّلها إلى كابوس ثقيل.
أيضًا يمْكن أن يتحوّل العمل إلى فضاءٍ للقداسة والولاية؛ ما دام حاضنًا لقيم الإنسانية والطِّيبة والإخاء، سواءٌ بالنسبة إلى الرئيس أو المَرؤوس. فالعمل ليس فقط حاجة معيشيّة تَسدُّ الرمق وتحفظ الكرامة، بل هو حاجة وُجوديّة، يحقّق الإنسان من خلالها ذاته، ويُفعّل دوره في المجتمع. والإنسان يقضي معظم حياته في العمل، بل يقضي أجمل أيامه في العمل، سنوات الشباب والعطاء والحيوية. فلتكُن تلك الأيام مبارَكةً سعيدة ممتعة، لا نِيرًا من نار، ولا عبوديّةً غير مُعلَنة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.