مِن النتائج الإيجابيّة لوسائل الاتّصال الاجتماعيّ، أنّها تُعطينا نبذة من آراء الناس في أمور شتّى، وبشكل عشوائيّ، في ظلّ غياب استفتاءات وأبحاث تُقام في دول العالم الأخرى، ويُبنى عليها أحيانًا في اتّخاذ القرارات ورسم السياسات.
اِستوقَفَتْني قبل فترة، قضيّة واحدة طُرحت في نفس الوقت وبالصدفة البحتة، على مجموعتيْن من مجموعات الفيسبوك. إحدى المجموعتين في دولة غربيّة، وكلّ مُتابعيها من الغربيّين، والأخرى في إحدى الدول العربيّة. كان الموضوع واحدًا، امرأة تعرَّضت للعنف مِن زوجها، وتسأل السّيّدات في المجموعة عن رأيهنّ في استمراريّة الزواج أو عدمها. المجموعة الأولى وبدون أيّ استثناء كانت على رأيٍ واحد: لا سكوتَ عن العنف؛ أمّا المجموعة الثانية (العربيّة) فتعدّدت فيها الآراء، من الاستنكار بتحفّظٍ، إلى الدعوة إلى المسامحة والتجاوز، حتّى طَرْح بعض الأسئلة التي تلوم الضحيّة على استفزاز الزوج العصبيّ، وتدعوها إلى تغيير سلوكها تجنُّبًا لإعادة الحادثة.
المفارقة ذاتها تجدها عندما يُطرَح موضوع التحرّش الجنسيّ، فمِن الرفض التامّ والتهديد بالقوانين الرادعة في الغرب، إلى لوم الضحيّة التي لو لَبِسَت ما لا يُثير الغرائز لما حصل التحرّش. وإنْ دخلْتَ معَ أصحاب هذه الآراء المريضة في جدال، على مبدأ أنّه حتّى المُنقّبة تتعرّض للتحرّش في بعض البلدان، فقد يصل بهم الجدل العقيم إلى الحدّ الذي يُخبرونك فيه بصراحة، أنّ المرأة لو لم تخرج من بيتها لما تعرّضت للتحرّش.
تخيّل لو جرى تعميم هذا التفكير في كلّ الجرائم، أي لولا تساهُل صاحب المال وإهماله لما حدثت السرقة، ولولا إهمال الوالدَيْن للحظة لما خُطف الطفل... وهكذا، فأيّ عقلٍ هذا الذي يُبرّر الجرائم بدلًا من محاربة المُجرم وردعه؟! وأيّ مجتمع هذا الذي نأمله من مثل هذا التفكير العقيم؟!
متى سنعي أنّ تبريراتنا للعنف هي ما يُدخلنا في دوّامة العنف الكبيرة، التي ندور في داخلها عقودًا طويلة؟! إنْ طغى العنف في البيت الذي هو لَبِنة المجتمع، فإنّ الناتج مُجتمع مُتقبّل للعنف. هي مُعادلة بسيطة لا تحتاج إلى فلسفة، هي دائرة مِن العنف والعنف المضادّ، إنْ سمَحْنا لها بالبَدء، فلا يُمكن أبدًا أنْ نُوقِف دورانها.
بذرة العنف التي تُزرع في المنزل، تَطرح أشواكَ الكراهية والحقد؛ لتنمو جذورها السامّة في أرضِ مجتمعاتنا المتخمة من المشاكل. العنف تحت مُسمّى التأديب مسموحٌ به في أغلب الدول العربيّة، وهو سُلطة تُعطى غالبًا لمن يُمارِس التأديب. فكم مِن الجرائم تُرتكب تحت هذا المسمّى في البيوت المغلقة؛ ليَنتج منها نساء مُحطّمات وأبناء مُدمّرون نفسيًّا! العنف وإنْ لم يقضِ على الجسد، فإنّه يقتل الروح. هو جريمة صامتة، يدفع ثمنها الضحيّة التي غالبًا ما تنتهي حياتها في مُستنقع الألم والفشل.
أُحذِّر دائمًا من أنّ المُعنَّف قد يغدو قنبلة موقوتة، تنفجر في وجه المجتمع إرهابًا وتدميرًا. ولو أنّنا راجعْنا سجلّات الإرهابيّين، لوجدْنا في حياتهم الأُسريّة الجواب الشافيَ عن تساؤلاتنا. الرغبة في الانتقام من المجتمع الظالم، هي سببٌ دفين لكثير من أعمال العنف والكراهية المنتشرة في مجتمعاتنا. فإلى متى السكوت وكلّ هذه الحقائق بين أيدينا؟!
لِنُعلنِ اليوم رفضنا لكلّ أشكال العنف والتعنيف حتّى اللفظيّ منها، لِنَدْعُ إلى سنِّ قوانينَ تحدُّ منه وتمنعه منعًا قاطعًا، لِنَقِفْ بالمرصاد أمام أيّ صوت يجتهد في وضع تبريرات عقيمة مريضة، لجرائم قد نكون نحن أو بناتنا أو أبناؤنا عرضةً لها في يوم من الأيّام. على المجتمع أنْ يعيَ أنّ العنف خطٌّ أحمرُ لا يجوز تجاوزه، وعلى المُتجاوِز أنْ يحتمل عواقب القوانين الوخيمة، وأن يَعْلم بأنّ سلطة ربّ البيت ليست مطلقة، وأنّه ليس مُنزّهًا عن الخطأ، وأنّ هناك سلطةً عليا تحكمه وتُوجِّهه، هي سلطة القانون التي تضع الحدود.
ولْنتذكّرْ دائمًا أنّه "إذا كان ربُّ البيتِ بالعصا ضاربًا، فشيمةُ أهلِ البيت كُلِّهِمُ العنفُ".
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبته ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.