في السنة الماضية، كنتُ في جولة في أحد شوارع حيِّ الحمراء ببيروت، فاسترعى انتباهي محلٌّ صغير لبيع نسخ من الكتاب المقدس والرموز الدينية. دخلتُ المحل فاستقبلتني سيدة مفعمة بالحياة والتألُّق، وحدثتني برؤية يسوع المسيح الذي غيَّر مسار حياتها، والدموع تكاد تنفلت من عينيها، داعيةً لي بالخلاص. بالنسبة إليَّ لم تكن تلك مجردَ شهادة لسيدة تُدْعى "مادلين" وحسْب، بل أيضًا اختبارًا لإيماني. كانت إحساسًا من خلال عمق تجربتها الإيمانية وصِدقها، بالانتماء إلى مستوى أعمق من الإيمان: أي التزكية بالحب، والتطهُّر بالفهم. وكَوْني استطعتُ أن أنخرط في تجربة خلاصها، جعلني -على ما أعتقد- أبتعد قليلًا من نفسي ومن قومي، وأقترب قليلًا من الله الحق. فبخلاصها يكون خلاصي.
إن اللقاء والحوار كتجربة حيَّة، تسمح لنا بفهم متجدد للتعددية الدينية أو المذهبية، من خلال تعميق فهمنا لوجود الآخر، وللغَيرِيَّة.
جعلتني التجربة أفكر في أنَّ إعادة الاعتبار للآخر، يمكن أن تشكل مقدمة عامة للمشروع الذي أشتغلُ عليه منذ سنوات، وهو إصلاح الفكر الديني في الإسلام من خلال إعادة تكوين البناء اللاهوتي، أيْ طريقة بناء تصوراتنا للعالم والآخر، في علاقتها بصورة الإله والحقيقة والمقدس. أعتقد أنه لا إصلاحَ دينيَّ مُمكنٌ بدون إصلاحٍ ما بينَ دينيٍّ، ولا إصلاحَ ما بين دينيٍّ دون إصلاحٍ لمركز اللاهوت، من خلال إعادة الاعتبار للغَيرية بصفتها طريقًا نحو الخلاص. هذا يستدعي تطوير التأويليات الإيجابية للدين الإسلامي؛ عسانا نخترق مساحات الانغلاق في العالم الإسلامي، ونؤسس لمشروع "الحكمة اللاهوتية".
لا شك في أنَّ بإمكان معتنقي الأديان والمذاهب المختلفة أن يتفقوا على قواعد التسامح وأخلاقياته، والعيش معًا، لكني أعتقد أن قيمة التسامح تبقى غير كافية، وعاجزةً عن تحويل علاقتي بالآخر إلى علاقة اعتراف حقيقية؛ لأنها قد تعني فقط قبول التجاور مع الآخر. يعني ذلك أن المجتمع يصير عاجزًا عن الانتقال من التكثُّريَّة (وجود أديان ومذاهب مختلفة)، إلى التعددية التي تنبني على الحوار المتجدد، والقدرة على دخول تجربة الآخر. ذلك هو الشرط الحقيقي لخُلُقَي التواضع والخلاص بالآخر.
يقوم العنف بتشويه العقائد الدينية التي تتحول إلى هُوِيَّات قاتلة، عندما تنحدر إلى الانغلاق اللاهوتي، وتُختزل في الأرثوذوكسية (أي التزمُّت ورفض الابتكار والتجديد) كحقيقة منجَزة بصفة نهائية. إن فكرة امتلاك الحقيقة المطلقة قد يجعل الجماعات المؤمنة تتوهم أنها الناطقة باسم السماء؛ ما يمنحها صفة الفِرقة الناجية، فتُعتبر التجارب الإيمانية الأخرى مجرد ضلالات "لاحقة" على الأصول التأسيسية.
تتحول العقائد المذهبية إلى منظومات نرجسية مغلقة؛ ما يجعل الآخَر خارج نطاق الاعتراف، خصوصًا في سياقَي الأقلية والأغلبية. لا شك في أن تقديس الحقيقة يؤدي إلى تقديس العنف، من خلال مقولات فقهية مثل: الجهاد، أو الشريعة، أو دار الإسلام ودار الحرب، أو المسلم والكافر؛ ما يعني انتفاء خُلُق التواضع، وهيمنة النرجسية العقائدية. وفي ذلك نقرأ قول المُحبِّ الأعلى: {مِنَ الذينَ فرَّقُوا دِينَهُم وكانُوا شِيعًا كلُّ حِزبٍ بِمَا لَدَيهِم فرِحُونَ} [الرُّوم: 32]. يَهدم الحقُّ تعالى هذه الأسطورة التي قد تجِدُ تطبيقَها التاريخي في عقيدَتَي الولاء والبراء لدى الأصوليات، أو بالأحرى اللَّاأصوليات الإسلامية. على العكس من ذلك، يقوم المَتْن الصوفي كنموذج من الأخلاقيات العليا للإسلام، بإدراج الغيرية في مساحَتَي التأويل الإيجابي والاعتراف اللاهوتي، عندما يؤكد أن “عدَد الطُّرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق".
تتورط المنظومات العَقَدِيَّة في منطق الثنائيات القاتلة، التي تشكل آليات تجعل الغيرية غير قابلة للتفكير، إلَّا كمرادف للخطأ أو الزندقة. يمكننا أن نفهم كيف أصبحَت ثقافة اللعنات اللاهوتية جزءًا مؤلمًا من حاضر الجماعات المسلمة. إنها ثقافة تَمْلك، عندما يجري استعمالها سياسيًّا، قدرةً تفسيرية واسعة لِبُؤَر التوتر التي تحصد الآلاف من الأرواح البريئة و"المكرَّمة"، في عالم إسلامي أصبح "علماؤه" عاجزين عن إنجاز مهمة تاريخية أساسية، وهي التأسيس لعقيدة العقائد وأم الفرائض -حيث عبَّر عنها أحدُهم بعنوان كتابه "الإنسان الحرام"-، وذلك من خلال الحوكمة الدينية والتأويلات الإيجابية لكل أشكال الغيرية؛ كي يصبح الاختلاف تنوُّعًا وليس "نكبة لاهوتية".
إن "الرسالة الثانية" التي تنتظرنا كمؤمنين، هي أن نجعل التأويل فِعلًا يكرِّس الغيرية في إطار الخيرية.
إنهم بما لديهم فرحون؛ أمَّا أنا فبلقاء إخوتي من الفِرَق الثلاث والسبعين من الفرحين!
"مادلين"، شكرًا أختاه، في الله أحببتُك!
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.