شكَّل بيان نوسترا أيتاتي Nostra Aetate (في عصرنا)، وهي وثيقة أصدرها بابا الفاتيكان بولس السادس سنة 1965، للإعلان عن تَصالُح الفاتيكان مع الأديان الأخرى في العالم، تَحوُّلًا عميقًا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.
صدر هذا البيان عن المَجْمع الفاتيكاني الثاني، الذي كرَّس انفتاح الفكر المسيحي الكاثوليكي على قيم الأزمنة الحديثة، ومصالحة تجربة الإيمان مع مبادئ العلمنة، والحرية، والديمقراطية.
تُعتبر هذه الوثيقة تَجاوُزًا لِما يسمَّى لاهوت خلاص الكفار أو "غير المؤمنين"، نحو لاهوت "الديانات غير المسيحية". لذا، فهي تشكل بدايةَ صياغة لاهوت التعددية الدينية، ونهايةَ القراءة الإطلاقية أو الإقصائية بشأن معنى التعدد الديني أو خلاص غير المسيحيين، وأيضًا هي تُطْلِق نقاشًا واسعًا حول فكرة خصوصية الديانة المسيحية، أو كَونيَّتِها. لا شك في أن هذا البيان يمثِّل مراجعة لبعض اليقينيات الكبرى المؤسِّسة لتاريخ الفكر المسيحي، لكنه لم يكن على الإطلاق "ارتدادًا" عن القيم المسيحية الأصيلة، بل إعادة تأويل عميقة لأسس الإيمان المسيحي، مَبنيَّة على قراءة الكتاب المقدس، وتقاليد الآباء المؤسِّسين للكنيسة.
أكَّد البيان أن كرامات جميع الناس متساوية أمام الله دون أي نوع من التمييز، واعترَف صراحةً بمنظومة حقوق الإنسان. لكن التحول الأكبر هو تأكيد احترام الأديان الأخرى وتقديرها، والاعتراف بـ"الصلاح الموجود في كل الثقافات والديانات وأفعال الإنسان"، وأن المؤمنين من غير المسيحيين يدخلون في "تعداد شعب الله"، بل إن البشرية كلها مدعُوَّة "بنعمة الله إلى الخلاص".
أشاد البيان بـ "المسلمين الذين يعبدون الله الواحد، الحي القيُّوم، الرحمان القدير، الذي خلق السماوات والأرض، وكلَّم الناس". وضمنيًّا شكَّل هذا النص اعترافًا بفرادة الإسلام، وبكونه جزءًا من خطة الخلاص الإلهي، رغم تفاديه مسألة اندراج الإسلام في دائرة الوحي والعهد الإبراهيمي. يبقى أن الاعتراف بإيجابية الأديان غير المسيحية، لم يكن لِيمسَّ بالخصوصية المنفردة للديانة المسيحية التي "تحتوي" الأديان الأخرى في "كمالها".
اِنبثق البيان في سياق حضاري يتميز بتزايد الوعي بحضور الأديان الأخرى، وأصبح الوعي بالآخر جزءًا من الوعي بالذات. لقد تحوَّلَت التعددية الدينية إلى مسألة لاهوتية، إذ لا يتعلق الأمر فقط بالاعتراف بتعدد الأديان، بل أيضًا بإمكانية حملها لقيم خلاصيَّة، ومِن ثَمَّ الاعتراف بأن هذا التعدد دائم، وغير قابل للاختزال.
مَنح المَجْمعُ الفاتيكاني مفهومَ التعددية الذي أصبح براديغما (نموذجًا تفسيريًّا)، معنًى جديدًا تمامًا لِمقاربة العلاقة بين الأديان في المجتمعات الحديثة. وبعد ثلاث وخمسين سنة من صدور الوثيقة المَجْمعيَّة، أتساءل هنا: أية دلالة دينية يمكننا نحن -المسلمين- أن نمنحها لهذا البيان؟
أعتقد أن دلالاتها جِدُّ ايجابية بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين، لِكونها نتاج مراجعات عميقة لا يمكن للمسلمين تفاديها مهما طال الزمن. إن هذا الفهم الجديد للتعددية يسمح بالخروج من النرجسيات الإسلامية القاتلة، من خلال إعادة إدماج الآخر في إطار مشروع تأويلي كبير، فالإسلامات المتعددة (سنة، وشيعة، وغيرهم) لم تخرج بعدُ من مرحلة التلاعن اللاهوتي، وخطاب القطائع الدينية المطلقة.
بالنسبة إلى العلاقة بغير المسلمين، يمكن أن نستوحي روح "نوسترا أيتاتي" للخروج من لاهوت التكفير، وعقيدَتَي الولاء والبراء، والإسلام ودار الحرب؛ ولإقرار قدسية الكرامة، والحرية البشرية.
بالنسبة إلَيَّ، يعني هذا البيان دعوة من أجل الانتقال من لاهوت الكفار إلى لاهوت المؤمنين غير المسلمين، أو حتى لاهوت المسلمين بالمعنى الإبراهيمي الواسع، وأيضًا من أجل القطع مع سرديَّات العقيدة الموحَّدة، وتأويل التنوع والاختلاف كبنْيَة تكوينيّة للإنسان في علاقته بالله، ولله في علاقته بالإنسان.
لكن السؤال المركزي الذي تطرحه الوثيقة المَجْمعية بالنسبة إلى المسلمين هو: ما المؤسَّسة المخوَّلة سلطةَ تأسيسِ مثل هذا التحول في الوعي الديني وتأصيلِه؟ ويا للأسف، فإن المؤسسات الدينية عاجزة عن القيام بهذا الدور؛ نتيجة استتباعها السياسي، وعجزها عن الانخراط في إستراتيجيات تأويلية كبرى، تُصالح الإسلام مع الأسئلة الكبرى للحداثة والإنسانوية! ويبدو أن مثل هذا التحول لا يزال بعيد المنال بسبب تعدد المنظومات العَقَدِيَّة حتى داخل المذهب السُّني، وغيابِ التواصل المعرفي؛ ما يفسر غياب سلطة دينية جامعة ولو في حدها الأدنى.
لا ريب في أن الإسلام في حاجة إلى بيان "عَصْره". نحن مسلمون كثيرون، مستعدون لكي نستقبل النعمة الإلهية في عصورنا الحديثة، و"نعتصم" بحبل الله جميعًا.
من خالص قلبي، أرجو أن يكون الحبل مفتولًا بروح الحب، والأخوَّة!
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.