لا يقتصر الإصلاح الديني في مفهومه الأعمق، على مراجعة الاجتهادات والأفهام التراثية ونقدها، وإنما يتعدى ذلك إلى إنتاج معارف ومقاربات منهجية تتجاوز الجهود الانتقائية، إلى اجتهادات إنشائية مبتكرة تعكس تطور العلوم، وتجيب عن التساؤلات والتطلعات المعاصرة.
إن إصلاح الأفكار والمفاهيم الدينية السائدة، أكثر صعوبة من إنشائها وابتدائها، خاصة وأن تلك الأفكار قد أصبحت جزءًا من الهوية، ومكوِّنًا أساسيا من مكونات الطمأنينة لدى قطاعات كبيرة من الناس.
ومن ناحية أخرى، ينظر كثير من أتباع الأديان إلى كل ما هو ديني نظرة تقديس، في مقابل خوفهم وارتيابهم من كل تغيير وتطوير. وفي هذا السياق، يسعى كثير من دعاة الإصلاح الديني إلى التفريق بين الدين، والفكر الديني؛ وذلك بغية طمأنة المؤمنين إلى عدم المساس بالثوابت والأصول.
إن قداسة النصوص واستعلاءَها، يمكن أن يسلب العقل الإنساني دوره، الأمر الذي يضعف من قيمة الاجتهاد الإنساني وفعاليته، ويجعله مجرد هامش محدود لا شرعية له بذاته.
لم يكن الفكر الإصلاحي يومًا بمعزل عن النقد والمراجعة، ومما يذكر في هذا السياق أن الروح الإصلاحية والإصرار على النجاح، ما تزال دون تلك التي لدى أتباع التدين الصراعي، أو الحَرْفي، أو الذين لديهم الاستعداد للتضحية بأرواحهم، لتحقيق ما يظنونه حقًّا وصوابًا!
لا يسعى إصلاح الفكر الديني إلى تقويض الدين، كما لا يسعى إلى إثبات صحة كل ما يتضمنه من مقولات. ففي الحالتين يصبح الإصلاح هُنا موقفًا عقَدِيًّا، أكثر منه جهدًا عقليا للإبداع والاجتهاد.
ومما يعوَّل عليه في نجاح الإصلاح الديني، الاجتهاد المقاصدي الذي يمكنه التعاطي مع التحديات الكبيرة والصعبة، التي تواجه المجتمعات الإسلامية، من طنجة إلى جاكرتا، ومن موسكو إلى واشنطن.
هناك من يصر على أن الإصلاح لن يكون إلا بأدوات دينية، وأن الحلول غير الإسلامية، بمعنى تلك التي لا تصدر عن رموز واتجاهات ومرجعيات دينية، هي السبب في الخلل الذي يخترم مجتمعاتنا. إلا أن انخراط قطاعات متعددة من الاتجاهات والأحزاب الدينية اليوم في الصراعات، وإنتاج خطابات مثقلة بالكراهية والعنف، يجعلان إلقاء مسؤولية الخلل على المعارضين للاتجاهات الإسلامية، أقلَّ إقناعًا، وأضعف تعليلا.
من أهم العوائق التي تواجه الإصلاح الديني، الاعتقادُ الواسع لدى قطاعات كبيرة، بأن السلف الصالح يمثلون الحق، ويقبضون على الحقيقة، ووجودُ مدارس دينية تدعم هذه الأنماط الفكرية، وترتبط بنظم سياسية تساندها، وتستمد منها شرعيتها.
ومع تنامي الاتجاهات الدينية الحَرفيّة، والصراعية، في السنوات الأخيرة، إلا أن ذلك يعود إلى غياب الظروف الملائمة لنجاح مشروع الإصلاح الديني، وليس إلى فشل مشروع الإصلاح نفسه.
لا بد للإصلاح الديني، من أن يتجه إلى معالجة الأزمات والصراعات التي تواجهها مجتمعاتنا، في ذات الوقت الذي يتجه فيه إلى مراجعة التراث، ونقده، وبناء معارف دينية جديدة.
مما يجب الاعتراف به اليوم، أننا ما نزال غير قادرين على الولوج في تجربة الإصلاح البروتستانتي، واستيعاب نتائجها الكبيرة على الحضارة الغربية المعاصرة، فضلًا عن فقه المناهج، والمقاربات الحداثية المعاصرة في دراسة الأديان.
لا مجال لإصلاح ديني دون إصلاح سياسي، يسبق أو يوازي الإصلاح الديني، كما حدث في اليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، عندما سارت الديمقراطية جنبًا إلى جنب، مع مراجعة نفوذ الإمبراطور "الميكادو"، في السياق العقدي للديانة الشنتوية.
من الضروري الشروع في إصلاح الخطاب الديني السائد، والاستفادة من الدراسات الإنسانية في تطويره. فالاقتصار على نقد الخطاب الديني، دون تقديم مقترحات تسهم في تطوير ذلك الخطاب، سيؤدي إلى مواجهة بين الإصلاحيين، والاتجاهات الدينية.
وأخيرًا، يجب أن نضع في صدارة أولويات المشروع الإصلاحي الديني، الاهتمام بتعزيز مركزية الإنسان، على المستويين الحقوقي، والمعرفي، والسعي إلى نقل مركز الثقل الديني، من "اللاهوت" إلى "الناسوت". فمن لا يفقه الإنسان الذي يراه، فليس جديرًا بأن يفقه الله الذي لا يراه.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.