لقد كشفت الأزمات المتتالية والأحداث العاصفة في المنطقة في السنوات الأخيرة، النقابَ عن أزمة اختلاط المفاهيم فيما يتعلّق بالهُويّة والمواطنة، إذ أظهرت الطائفيّة المقيتة حقدَها على الوطن، وحاول الطائفيّون الترويج لفكرة مُدمّرة مبدؤها أنّ الطائفة تعلو على الوطن؛ ما يستدعي وقفة مهمّة لتصحيح مفاهيم جاهلة، تكرّرت على ألسنة الكثير حتّى صدّقها العوامّ، وباتَتْ تُشكّل خطرًا على الوطن والمواطنين.
كونك من طائفة معيّنة حتّى وإنْ شكّلت الأغلبيّة فهذا لا يُعطيك أيّ ميزات إضافيّة كمواطن، إذ إنّ أبناء الطوائف الأُخرى هم أبناء الوطن مثلك تمامًا، جذورهم ضاربة في عمق الأرض، قدَّمُوا وأجدادهم التضحيات تلو التضحيات، وساهموا في رفعة البلد وحضارته.
أنت وهم وغيركم من أبناء الطوائف المختلفة خيوطٌ لنسيج مجتمعيّ جميل، كان وما زال عماد الحضارة في بلادنا. لا مِيزة لأحدٍ على أحد بهُويّته الطائفيّة، بل المِيزة الوحيدة هي بما يُقدّمه الفرد للوطن ولرفعته ولسموّه.
تبكيني تربتنا الهشّة الضعيفة التي ما إنْ ينثر فيها جاهل بذور الفتنة حتّى تكبر أشواكها السامّة لتقتلع ورود المحبّة والتآخي. أستغرب استدراجنا بسهولة خلف كلّ مَن يلبَس عباءة الدين ويتحدّث باسم اللهِ واللهُ بريء منه، أستغرب تحييد العقول والتبعيّة العمياء وراء الأسماء التي تُسقطها المواقف عبر الزمن، أستغرب عدم قراءة تاريخ بلداننا المعنون بـ"فرّقْ تسُدْ"، أستغرب عدم الاتّعاظ بدروس الماضي القاسية.
علينا جميعًا أنْ نقف بالمرصاد لأيّ محاولة فتنة، علينا أنْ نبنيَ سدًّا منيعًا يمنع انجرافنا في مستنقعات التدمير الذاتيّ التي يُحاول أعداء الحضارة جرفنا إليها. كلّ الجهود يجب أنْ تتضافر لإخراجنا من عنق زجاجة الجهل التي نقبع فيها منذ عقود، الإعلام والتعليم ومؤسّسات المجتمع المدنيّ، حتّى وإن اقتضتِ الضرورة زيارات ميدانيّة توعويّة، كلّ الوسائل المشروعة مطلوبة ومحمودة.
المناهج يجب أنْ تُعبِّر عن هذا الاندماج بطريقة حضاريّة جميلة، ففي منهاج اللغة العربيّة مثلًا يمكن الاستعانة بأسماء أخرى غير باسم ورباب والأسماء المعتادة، أسماء يظهر من خلالها التنوّع الطائفيّ جليًّا واضحًا؛ أمّا في مادّة التاريخ فيجب أنْ يجري التركيز على إنجازات كلّ الطوائف ومساهماتها في صنع حضارة الوطن. حتّى الصور التي تملأ صفحات الكتب المدرسيّة يجب أنْ تُسوِّقَ لفكرة الاختلاف في الدِّين، التي تظهر جليّة في الأزياء في كثير من الأحيان، كما أنّه يجب التذكير دائمًا بالحروب الطائفيّة ونتائجها الكارثيّة التي لم يخرج أحدٌ منها منتصرًا، وإعطاء نماذج من دول نهضت وتقدَّمت بعد دفْنِ الأفكار العنصريّة والطائفيّة تمامًا. كلّ هذا مِن شأنه تجذير فكرة قَبول الآخَر، فضلًا عن مناهج التربية الدينيّة التي يجب أنْ تعكس الرؤية السمحة للديانات، بما يُساهم في تعزيز مبدأ التعايش والتوادّ تحت مظلّة الوطن.
التركيز على المشترك وتحصين فكر الفرد وإغلاق منافذ الفتن، هو الضامن لمستقبل مُزهر ينصرف فيه الفرد إلى ما هو أهمّ، وتتضافر جهود الجميع لتطوير الوطن ورفعته وتحسين الأحوال المعيشيّة لأفراده جميعًا كوحدة واحدة.
إنّ الخطوة الأولى للتنمية هي المساواة بين أبناء الوطن الواحد، ليس فقط أمام القانون بل في فكر كلّ مواطن، إذ لم تجلب لنا الطائفيّة سوى الدمار والأطماع الخارجيّة، وهجرة العقول إلى بلاد ساوت بين مواطنيها فتعمّرت وازدهرت، بلاد يُنتخب فيها الأكثر كفاءةً والأجدر بقيادة المنصب، بلاد يُمارِس كلّ مواطن فيها حقّه في عبادة الله كما يشاء، بلاد أضحتْ حلمًا لكلّ طامع في الحياة الكريمة الحرّة، بلاد تُؤمن بأنّ علاقة كلّ فرد بالخالق تخصُّه وحدَه؛ أمّا الوطن فهو للجميع.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.