تتعدد أشكال التضامن وتتنوّع دوافعه، إذ قد يكون تضامُنًا بالقول أو بالفعل، وأحيانًا بكِلَيْهما، في حين تَنبع الدوافع من نواحٍ قومية أو إثنيَّة أو دينية، لكنها تتجلّى وتسمو عندما يكون منبعها إنسانيًّا خالصًا. وفي كلِّ الحالات، فإن التضامن من القيم الإنسانية التي علينا تعزيزها في سبيل إحلال السلام، وليس في تأجيج الصراع.
عادةً ما يأتي التضامن كواجب قوميّ أو كوازع ديني، لكنه اليوم جاء عابرًا للحدود والقارّات والأديان. لقد صدح هذه المرّة كواجب إنساني، بلسان البابا فرنسيس نفسه، الذي استبق زيارته للإمارات بالمطالَبة بوضع حدٍّ للحرب في اليمن، والصلاة والدعاء لأجل اليمنيِّين.
لا يوجد مجال للشك في أن الإنسانية أشمل من الأديان، أعمق من القوميات، أبلغ من اللغات، وعابرة للثقافات أيضًا، حتى القرآن ذاته، أكثرُ ما ورد فيه "يا أيُّها الناس". لم يَخُصّ عِرقًا بعينه، أو بلدًا بذاته، أو جماعة دينية أو مذهبية معيّنة. وبدعوة البابا فرنسيس هذه، المتزامنة مع زيارته الأولى لدولة الإمارات العربية المتحدة، في "أسبوع الأخوّة الإنسانية" و"عام التسامح" الذي أعلنته أبوظبي؛ يجِدُ القارئ ملامح مُشرقة لصفحات أكثر إشراقًا، عنوانها الرئيسي الإنسانية أوّلًا.
"لقد أنهك الصراع الطويل في اليمن السُّكانَ، ويعاني الكثيرُ والكثير من الأطفال الجوع، لكن ليس في مقدورهم الحصول على حصص الغذاء". هذا ما قاله البابا فرنسيس أمام الآلاف من الناس، في ساحة القدِّيس بطرس بالفاتيكان، قُبَيل تَوجُّهه إلى دولة الإمارات بساعة واحدة. وأضاف: "صراخ هؤلاء الأطفال وآبائهم يرتفع إلى الرب"، داعيًا في ذات الوقت "جميع المؤمنين للصلاة من أجل الإخوة اليمنيِّين".
ومن الإمارات قال البابا فرنسيس: "وجدتُ نيّة حسنة للبدء في عمليات سلام لإنهاء الصراع في اليمن". فهل ستتحوّل النية الحسنة إلى أفعال؟ وهل تستمع أطراف النزاع في اليمن لداعي السلام، بدلًا من التَّخندُق وراء جرعات التحريض المفرطة؟!
نحن في حاجة في اليمن إلى كلِّ أشكال التضامن، وإلى كلِّ صوت يدعو إلى إيقاف هذه الحرب المجنونة. ثم إننا ننظر بعين واحدة في هذا المضمار، إلى مسيحيِّي الشرق والغرب، وإلى المسلمين في كلِّ أنحاء العالم على السواء. لا فرق بين تضامُن عربي أو كردي، ولا تُركيّ أو فارسي. أهمُّ ما يهمُّنا هو الأصوات التي تَجمع ولا تُفرِّق، وتَبني ولا تَهدم. لقد فهم بعضهم –يا للأسف- مفهوم "العصبية" لابن خلدون، بطريقة غير صحيحة، معتقدين أنه يقصد التعصّب للدين والمذهب والعِرق والقبيلة، في حين أنه يعني بمفهوم علم الاجتماع الحديث بحسب المفكر محمد الجابري: "التضامن الاجتماعي" بمعناه العامّ والواسع.
قبل عامَين، وفي بلدة روان بشمال فرنسا، حضر آلاف من المسلمين قدَّاسًا كنَسيًّا، وذلك تضامنًا وتكريمًا للقس جاك هامل، الذي قضى على يد قوى الإرهاب. وقبل ذلك خرج عشرات الآلاف من المسيحيين، مطالِبين بإيقاف الحرب في سوريا واليمن. ما يجب التنويه به، هو أن الإسلام والمسيحية بريئان من حركات التطرف وقوى الإرهاب. فلا "تنظيم داعش" يمثّل الإسلام، ولا "جيش الرب" يمثّل المسيحية، ثم إنّ "الصهيونية" لا تَعني اليهوديّة أيضًا.
قد يسألني سائل: "لماذا لا تطالِب بتضامن إسلامي مع اليمن بدلًا من ترحيبك بالتضامن المسيحي؟". وقد يسأل آخر: "أين التضامن العربي من قاموسك؟!". فأُجيب كلّ مَن يتبادر إلى ذهنه مثل هذَيْن السُّؤَالَين: إن التضامن مطلوب ومرحَّب به من الجميع. ولكن، أيُّ تضامُن يأتِ من خارج الأطر المحلية والقريبة، فسيكون حتمًا محلَّ تقدير وترحيب كبيرَيْن، بغضِّ النظر عن خلفيّته الدينية أو المذهبية. وكما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الناس صِنفان، إمّا أخٌ لك في الدِّين، أو نظيرٌ لك في الخَلْق".
"لسنا اليوم في صراع حضارات، بل في صراع حضاريٍّ داخل كلِّ حضارة. بين تَوجُّهٍ رجعي عنيف وآخر يدعو لكلمةٍ سَواء"، بحسب ما قال الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميِّل. ولكي نكُون من الفريق الثاني، الداعي إلى العيش معًا؛ لا بد أن ننطلق من قاعدة إنسانية صِرْفة تَقْبل الآخر، بغضِّ النظر عن لونه أو دينه أو مذهبه أو إثنيته. يكفي أنه إنسان لنتضامن معه، ويتضامن معنا، ونَحْيا معًا.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.