تَشهد بعض المجتمعات العربية، تَحوُّلاتٍ عدّةً في التفكير وفي التدبير وفي المعرفة؛ ما يُفْضي إلى التغيير في نمط العيش وممارسة الحياة. ولكن، لماذا بعضٌ منها يتقدّم خطوة، وبعضها الآخر يتراجع خطوات؟! هل سبَبُ هذا التغيير مرتبطٌ بتَغيُّر فكر الحاكم، أمْ بتغيُّر مفاهيم النظام، أمْ بتغيُّر النظام برُمّته، أمْ هو عائدٌ إلى تَغيُّر المجتمع ذاته، لِيَجد الحاكمُ أو النظام نفسه مُجبَرًا على الاعتراف بهذا التغيير وإقراره؟ في كِلْتا الحالتَين قد نصل إلى الجدلية التي تسأل: أيُّما أكثرُ تأثيرًا في واقعنا العربي اليوم: "الناس على دِين مُلوكهم"، أمْ "كيفما تكُونوا يُوَلَّ عليكم"؟
لا شك أنه كثيرًا ما تنعكس أفكار الحاكم ومعتقداته، على إنتاج منظومة الحكم. وهذه المنظومة غالبًا ما تُنتِج مجتمعًا، معظَمُه يستنسخ أفكار حاكمه ومعتقداته. هذا بطبيعة الحال، نجده في الأنظمة الشمولية التي تحاول فرض سلطتها على المجتمع، وتعمل على السيطرة على كافة جوانب الحياة الشخصية والعامة، كالإيديولوجيا والاقتصاد والتعليم والفنِّ والمهن، حتى أخلاقيَّات المواطنين/ات. لكننا قلَّما نجده في الأنظمة الديمقراطية.
في المقابل، لا شك أيضًا أن الشعوب تُحْدث تأثيرها في الحاكم وفي نظام الحكم عمومًا؛ ما يعكس تغييرًا إيجابيًّا على حياتها وحريتها، ويحقّق الرفاهِيَة التي تصبو إليها. ولكنَّ ذلك يكُون سهلًا وسلسًا وغير مُكلِّف في الأنظمة الديمقراطية؛ أمّا في الأنظمة الشمولية أو حُكم الفرد، فإنّ تَكْلفة التغيير تكون باهظة، وقد تصل أحيانًا إلى استبدال نظام شمولي بنظام أكثر شمولية منه، وهو ما تشهده برأيي بعض الأقطار العربية.
تاريخيًّا -على سبيل المثال-، كانت ما عُرِف بالأندلس مسيحيّة. وعندما حكَمها المسلمون تأسْلمَت، ثم عادت إلى مسيحيَّتها بعد خروج الحكم الإسلامي منها. لكنها –تضمُّ حاليًّا إسبانيا والبرتغال- تتبنّى اليوم النظام الديمقراطي، الذي يكفل الحقوق والحريّات، ومنها حرية المعتقد، وتَقْبل وجودَ كنيسة بقرب جامع أو مَعبد؛ إذ لم يعُدِ الحاكم فيها يَفرض سلطته على حرية الآخرين كما فرضها الحُكّام الأوائل، سواءٌ المسلمون أو المسيحيون، ولم يعُدْ يتعدّى دورُه إطارَ المنافسة مع خصومه السياسيين، في تقديم الكثير من الحريات، مِن ضِمنها حرية الفكر والاعتقاد.
إنّ عملية التغيير نِتاجُ إرادة مجتمعية، قبْل أن تكُون إرادة سياسية. فثقافة الشعوب ووعْيُها، هي مَن تصنعهما، وذلك بالتوافق والتوازي مع قناعات الحاكم. ومِن الخطأ اعتقادُ أنَّ التغيير يتحقق بمجرَّد تغيير رأس الحكم فقط، أو بمجرد إصدار السلطة قانونًا أو دستورًا يقضي بالإصلاح، بل إنه لا بد من إعادة النظر في الأفكار والعادات والمعتقدات البالِيَة، التي لا تنسجم مع واقع اليوم، قبْل التفكير في تغيير النظام السياسي، أو الإقدام على إصلاحات اجتماعية مِن قِبل السلطة، دون تهيئة ثقافية أو فكرية لها.
التغيير المفروض مِن قِبل الحاكم، دون تهيئة الأرضية المناسبة له، يُعدُّ تغييرًا ناقصًا، لا سيَّما إذا ما جاء بقرار سلطوي، وليس تلبية لمَطالب ورغبات شعبية. ثم إنَّ سعْيَ النُّخب إلى إحداث التغيير دون تهيئة المجتمع له، قد يؤدِّي إلى نتائج عكسية. فبدلًا من استيعاب فكرة الإصلاح، ينقسم المجتمع، وقد يصطفُّ مع الحاكم، أو يُنتِج حاكمًا أسوَأ منه. وكما يؤكِّد الشيخ محمّد الغزالي، فإنَّ: "العمل الصعب هو تغيير الشعوب؛ أمّا تغيير الحكومات، فإنه يقَع تلقائيًّا عندما تريد الشعوب ذلك".
إنّ عملية التغيير مُركّبة ومترابطة، وليست بمعزلٍ عن الوعي الكامل بها. ثم إنها ليست بتلك السهولة والخِفّة، التي يمْكن من خلالها تحقيق التطوير والإصلاح بِعَصًا سحريَّة، بل تحتاج إلى التوافق المجتمعي، وتهيئة الظروف الاجتماعية والسياسية اللازمة لتفعيلها. فأكثرُ ما يُعيقها -كما يقول غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"-: "العقليَّات المتحجّرة التي تأخذ وقتًا طويلًا جدًّا قبْل أن تتغيّر".
أيضًا لا بد من التمييز بين التغيير الجوهري والتغيير الشكلي. فالأوَّل نابعٌ من الداخل، ونتائجه تنعكس على الحريّة بمفهومها الكبير والواسع، بدءًا من حرية الرأي والفكر والمعتقد، وليس انتهاءً بحُكم الشَّعبِ نفسَه بِنفسه. أمَّا التغيير الشكلي، فلا يتعدى عن كَونه انفتاحًا مستورَدًا أو مُعلّبًا يُفرَض على المجتمع، كما سبَق أنْ فُرض عليه التشدُّد من قبْل. وهو انفتاحٌ مؤقّت، قد يتغيّر بتغيُّر مزاج الحاكم، ليجد المجتمعُ نفسَه، وقد وقع في انفصام في صيغة التطبيق لكلْتا الحالتَين؛ إذ بقدر ما يكون فرض التشدّد سيّئًا، فلا يقل عنه سوءًا فرض الانفتاح بالقوّة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.