اِشتهرَتْ سلطنة عُمان بأن التسامح يسود شعبها، وهذا صحيح. وقد يظنُّ الكثيرون أن مَرجع ذلك التسامح هو سيادة ثقافة واحدة فيها، وبذلك لا مجال لكبير اختلاف بين سكانها. وهذا ليس دقيقًا، بل هو مخالف للواقع العُمَاني. فعُمان تزخر بالتنوع الثقافي، ولم يكن نزاع حول مكوِّنات هذا التنوع ومعطَياته على طول التاريخ. نعم، لقد مرَّت عُمان –كغيرها– بفترات صراع، لكنها تدور حول الجوانب السياسية؛ إمّا بسبب الصراع على الحكم داخليًّا، أو بسبب التدخُّلات الخارجية. أمَّا البُنْية الثقافية، فقد عاشت متسالمة فيما بينها، بل متكاملة.
على مرِّ التاريخ، سكَن عُمانَ أقوام مختلفة، ومرّت عليها حضارات عديدة. فسكنَها الإنسان الأول الذي استقرّ في الجزيرة العربية، والذي تذهب بعض الدراسات عنه إلى أنه قَدِم من القرن الإفريقي، وأيضًا نزح الهنود القدماء إليها. وفي إطار الهجرات العربية القَبليّة التي جابت جزيرة العرب؛ استقرَّ بعمان قبائل من عرب الجنوب، لا سيما الأزْد، ولعلّهم هُم المكوِّن الأكبر فيها، وبيدهم تَداوَلوا الحكم عليها منذ ما قبل الميلاد حتى الآن، في حين استقرت رئاسة المرجِعية الدينية في الإسلام غالبًا بيد عرب الشمال. أيضًا الوجود الفارسي على السواحل العُمَانية ترك أثرًا فيها. ثم جاءت إلى عمان هجرات من الهند وبلوشستان والساحل الإفريقي. هذا التنوع السكاني انصهر في بَوتقة متآصرة اجتماعيًّا.
من الحضارات التي كانت لها علاقة بعمان قديمًا: السومرية والفينيقية والآشورية والبابلية. والحضارتان الأُولَيان، هُما أكثرُهُما تأثيرًا في عمان. وأيضًا تكوَّنت فيها حضارة كبرى نابتة من ترابها، وهي حضارة سلّوت.
بالنسبة إلى التنوع اللغوي، تدلُّنا الآثار على وجود اللغتَين: السومرية والفارسية، إضافة إلى اللسان الذي تطوَّر في المنطقة. وهو ينقسم على حِقبتَين متميِّزتَين: العربية الجنوبية –وخطُّها المُسْنَد– التي سادت قبل الإسلام، والعربية الشمالية التي تَنزَّل بها القرآن وانتشرت بعد الإسلام. أيضًا احتفظت عمان ببعض اللغات العربية القديمة مثل: الشحرية والمهرية والهبوتية والحرسوسية في ظفار، في حين وُجدت بعد الإسلام نتيجة الهجرات في الشمال مع العربية: الكمزارية والبلوشية واللواتية والسواحلية. هذا التنوع اللغوي لم يَفصل المناطق في عُمان بعضها عن بعض، بل أوجد تمازجًا بين المكوِّنات الاجتماعية، لِتَداخُل المتكلِّمين باللُّغات فيما بينهم.
بعد مجيء الإسلام، قرَّر العُمانيون الدخول فيه عن رغبة، لكنه لم يُنْهِ التنوع الديني؛ وإنما تَحوَّل إلى نمط آخر، وهو التنوع المذهبي. فقديمًا وُجد فيها "الدِّين السِّحري" الذي يقدّس الثعبان، ثم الدين الوثني الفلكي، وقد وُجد لكِلَا الدِّينَين دلائل في الآثار المكتشَفة. ثم جاء الدين التوحيدي بداية من اليهودية، ثم المسيحية. كذلك وُجدت الزرادشتية "المجوسية" خلال الوجود الفارسي على السواحل.
هذا التنوع الديني انعكس على التنوع المذهبي بعد الإسلام. فلمّا ظهرت الفِرق بعد عهد الصحابة، وُجد في عُمان الصفرية التي انتشرت حينها فيها، ثم ما لبثت طويلًا حتى حلَّت محلَّها الإباضية، مع وجود القدَرية والمُرجئة. ولمّا ظهرت المذاهب، دخلت فيها مذاهب أهل السُّنّة والشيعة. وبنظري، أن التنوع الديني ثم المذهبي المتسالم، هو الأرض الصلبة التي تقف عليها خصيصة التسامح العمانية، حيث لم يشهد التاريخ العُماني أيَّ صراع من هذا النوع. فكُلُّ أصحاب المذاهب كانوا مندمجين اجتماعيًّا، لا تنحاز مساجدهم إلى فئة دون أخرى، يتزاوجون فيما بينهم، ويجتمعون في إدارة شؤون بلادهم، ويقوم بعضهم بحاجة الآخر، ولا يمتنع بعضهم عن دفن موتاهم في مقابر الآخرين. وهذا جنّب العُمانيِّين موجة الصراع المذهبي المتأخرة، وحماهم من ويلات التطرف والإرهاب.
هناك أمر آخر قد لا يُلتفت إليه، وهو التنوع البيئي، الذي أوجد بيئات اجتماعية متعددة، لكن دون أن تستغني إحداها عن الأخرى. ففي عُمان توجد المناطق الجبلية الباردة كقرى الجبل الأخضر، حيث يتمتع أهلها بالصلابة؛ والمناطق الزراعية التي نشأ فيها نظام شبكة الري المعروف بالأفلاج، فوُجدت فيها المدن الحضَرية التي أخرجت العلماءَ والساسة والشعراءَ والمفكرين؛ والبيئة البدوية التي علّمت أهلها الصبر والدهاء، وكانوا مادة الحواضر في حروبهم التي واجهوا بها التدخلات الخارجية؛ والبيئة المطيرة التي تستمر مدة فصل الصيف، وهذه البيئة لخصوصيتها حافظت على عاداتها ولغاتها القديمة، وكان لها أدبها الثري؛ والسواحل التي انفتحت على العالم الخارجي فتفاعلت مع الحضارات، فأثَّرَت وتأثَّرَت بها، وكانت جسرًا للتنوع الثقافي العُمَانيّ.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.