هل وُلِدت فكرة التوحيد كاملة منذ بداية التاريخ البشري، ثم بدأت تتأثر بالظروف المحيطة وتبتعد شيئًا فشيئًا عن نقاء التوحيد، أم بدأ الاعتقاد البشري من فكرة ساذجة حول الآلهة، ثم بدأ يتطور بشكل تصاعدي حتى بلغ سمُوَّ التوحيد؟
لم يكن من اليسير على الفكر الديني القديم أن يجمع بين إله الموت وإله الحياة، أو بين آلهة الخصب وآلهة الجفاف، أو بين إله الخير وإله الشر، في ذات واحدة تجمع بين تلك المعاني كلِّها. ففكرة التوحيد تتطلب قدرة عقلية كبيرة، قادرة على الجمع بين المشاعر النفسية والمعاني العقلية المتعارِضة في تصوُّر واحد، تمامًا كما في "نظرية كلِّ شيء"، أو "النظرية المُوَحَّدَة العظمى" التي تسعى إلى تفسير جميع الظواهر الطبيعية، من خلال قانون واحد أو معادلة واحدة.
يزعم اليهود أنهم أوّل الأديان التي نادت بالتوحيد. ونجد هذه العقيدة واضحة في عبارة "الشماع" "اسمَعْ يا إِسرَائيلُ: الرَّبُّ إِلهُنا ربٌّ واحدٌ" (التثنية 6: 4). والواقع أن هناك عقائد توحيدية سبقت نصوص التوراة، حسب ما ذهب إلى ذلك فرويد في كتابه "موسى والتوحيد"، والذي أكَّد فيه أن التوحيد في الديانة المصرية القديمة، هو مصدر التوحيد في الديانة اليهودية.
أيضًا نجد دلالات توحيدية مهمّة في التراث الديني الهندي، تمثِّل حالة متضمِّنة أو موازية للسياق التعددي العامّ، كما هو الحال في وحدانية الإله "براهما"، الخالق الذي اتحد بالإله "فشنو" الحافظ، والإله "سيفا" المُهلك. ولعلَّ الديانة الفارسية القديمة تمثِّل مرحلة وسيطة، تحكي تطوُّر الفكر الديني من تعدُّد الآلهة، إلى الديانة المثنوية التي تُؤْمن بإلهَين اثنَين: إله الخير والجمال والفضائل (أهورامزدا)، وإله الشر والقبح والخطايا (أهريمان).
يَقْبل الفكر الديني السائد فكرة التطور على صعيد العقائد "الأخرى"، ولكنه يرفض بقوة فكرة تطور العقيدة على صعيده "الداخلي". وهذا التفريق بين ظرفيّة الآخر وإطلاقية الذات، يمثِّل إشكالية مؤَرِّقة في الفكر الديني لا يمكن تجاهلها. وبعيدًا عن التنظير العَقَدِي الذي يُهمل تاريخية العقائد الدينية واختلاف أطوارها، فإن الفكر الإنساني في جميع مجالاته قد انتقل من التفكير البسيط إلى التفكير المركب، ومن اعتقاد تعدُّد الآلهة وامتزاجها بالطبيعة إلى اعتقاد وَحْدة الإله، والسعي إلى تجريده بعيدًا عن الطبيعة.
إنّ اعتقاد أن عقيدة التوحيد قد وُلِدت كاملة، بعيدًا عن السياقات المعرفية البشرية، لا يمثِّل حقيقة تاريخية بقدر ما يمثِّل اعتقادًا دينيًّا. لكنه من الممكن القول، بأنه في ذات الوقت الذي كان الفكر البشري يسعى فيه إلى تطوير تصوُّراته الدينية، وُجِدت أفكار توحيدية تُطلق شراراتها بين الفينة والأخرى. وهنا، نستذكر قصة إبراهيم عليه السلام، والتي تمثِّل في عمقها الفكري حالة توحيدية عابرة للأديان، تسعى للانتقال من تعدُّد الآلهة الملتبِسة بالكون، إلى نوع آخر من التفكير الديني، الذي يسعى لإيمان توحيدي تنزيهي، يَتجاوز تأليه النجوم والأفلاك.
لعلّ البدء بنفي ألوهية الآلهة الكثيرة في كلمة التوحيد في الإسلام "لا إله"، قبل إثبات التوحيد لله وحده "إلّا الله"، يمكن أن يشير إلى أن العقائد الدينية القديمة بدأت من كثرة الآلهة، قبل أن يتَّجه الفكر الإنساني إلى الإله الواحد، الذي تتمثَّل فيه معاني الكمال والجلال. ويتلخَّص معنى كلمة التوحيد في النظرة العَقَدِيَّة الإسلامية، في أنه "لا معبود "بحقٍّ" إلّا الله". وفي مقابل ذلك، نجد النظرة العرفانية الصوفية تقول: "لا معبود إلّا الله". وبذلك، فإن كلَّ معبود توجَّهَت إليه القلوب، ينطوي على شيء من معنى التوحيد الأمثل.
يستمرُّ السِّجال اليوم بين ثلاثة أشكال من التوحيد: التوحيد العقلي التجريدي، والتوحيد الصوفي العرفاني، والتوحيد الشعبي التسليمي. وهو سِجال يؤكِّد أن الاختلاف بين الموحدين، لا يمثِّل خطرًا على حقيقة التوحيد. فالفهم الإنساني لمعنى الإله يبقى ملتبِسًا بشيء من التشبيه والتجسيم، الذي تفرضه اللغة والثقافة، كما أنه لا انفكاك لتصوراتنا العقلية عن هذا الالتباس.
إنَّ تصورات الإنسان تجاه الإله، هي على قدر ظنّه ووُسْعه، وليس على قدر الحقيقة الإلهية: "أنا عِندَ ظنِّ عَبدِي بي، إِن ظنَّ بي خَيرًا فلهُ، وإِن ظنَّ شرًّا فلهُ" (رواه أحمد).
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.