يسعى التوظيف السياسي للنصوص إلى تحقيق مصالح فئات متنفذة في السلطة أو خارجها، وذلك بغية تسويغ ما تخوضه من صراعات وحروب. ولا يُعدُّ ذلك أمرًا جديدًا في تاريخنا الإسلامي. فقد استلَّ الخوارج قبل أربعة عشر قرنًا شعارهم الأول من قوله تعالى: {إِن الحكم إلا لله}، لتبرير خروجهم على الخليفة الرابع بعد أن قبِل التحكيم حقنًا لدماء المسلمين، كما رفع جُند معاوية صحف القرآن على أسِنَّة السيوف والرماح، بعدما أدركوا أن هزيمتهم قد أضحت وشيكة.
من الأمثلة الواضحة على التوظيف السياسي لفهم النص الديني في الإسلام، ما جاء عندما ورَّثَ معاوية الحكم لابنه يزيد. ومن أجل شرعنة ذلك قال مروان بن الحكم: "سُنَّة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما". فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: "سنة هرقل وقيصر". فقال مروان: "هذا الذي أنزل الله تعالى فيه {والذي قال لوالديه أف لكما} الآية". فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: "كذب مروان..." "رواه النسائي".
إن التوظيف السياسي لفهم النص الديني، إلى جانب تعطيله لفهم الواقع السياسي والموضوعي للأمّة، فإنه يحيل النص القرآني إلى نص صراعي، يؤجج الحروب ويثير البغضاء، كما أنه يقوِّض المضمون الإنساني للإسلام، ويفقده قيمته الجوهرية المتمثلة بكونه "رحمة للعالمين".
من الملاحظ في تاريخنا السياسي أن السلطة كانت في أغلب الأحيان أقرب إلى "الانتقائية التأويلية"، خلافًا للمعارضة العنيفة التي كانت تتخذ من "الانتقائية الحرفية"، منطلقًا لتسويغ خروجها على النظام، هذا إلى جانب إهمال تلك المعارضة لسياقات التنزيل وأسبابه.
والوجه الآخر للانتقائية الصراعية ذات الأهداف السياسية، يتمثل بـ"الانتقائية التاريخية"، والتي تتجه إلى التاريخ بهدف البحث عن أسوأ نماذج المخالف، وذلك بغية تسويغ الصراع معه. وهنا نذكر على سبيل المثال أنموذج مؤيد الدين بن العلقمي "الشيعي" وزير المستعصم العباسي، الذي يُتّخَذ الحديثُ عنه ذريعةً لتسويغ خطاب الكراهية ضد الشيعة، من خلال إعادة إنتاج مقولة بعض المؤرخين، الذين اتهموه بالتعاون مع المغول وتسليم بغداد عام 656 هجري، هذا مع أن رشيد الدين الهمذاني مؤرخ المغول يذهب إلى أن ابن العلقمي كان "وزيرًا مخلصًا، حاول بنصائحه أن ينقذ ما يمكن إنقاذه". ولكن لو سلّمنا بصحة ما يقال عن خيانته، فإنه لن يكون أسوأ مما نقلته كتب التاريخ عن الملك الأيوبي "السنّي"، الذي سلّم القدس للصليبيين قبل ابن العلقمي بثلاثين سنة!
والحقيقة أن كُلاًّ من هاتين الشخصيتين لا يمثل "أهل السنة"، أو "شيعة آل البيت"، بل يمكننا وعوضًا عن هذه الانتقائية السلبية، أن نأخذ أنموذجًا إيجابيًّا من كلٍّ من السنة والشيعة، فنأخذ مثالًا للشيعة "سيف الدولة الحمداني"، الأمير العربي الذي قضى أغلب حياته في مواجهة البيزنطيين، والدفاع عن بلاد المسلمين. وفي الجهة السُّنّية نأخذ مثالًا "صلاح الدين الأيوبي"، الذي تصدى للفرنجة ودحرهم.
من بدهيات العقل والنقل، الإقرار بأن الأخطاء المقترفة من قبل بعض أتباع مذهب ما، ليست بالضرورة نهجًا متبعًا من قبل جميع أتباعه. وهذا ما نجده جليًّا في المنهج القرآني لدى حديثه عن أتباع أهل الكتاب {لَيسُوا سَواءً منْ أهلِ الكتابِ أمّةٌ قائِمَة يَتْلُون آياتِ اللّه آناءَ اللَّيل وهُم يَسجُدونَ. يُؤْمِنون باللَّه واليَوم الآخِر وَيَأمُرون بالمَعروف ويَنهَون عَن المُنكَر ويُسارِعُون في الخَيرَات وَأُولئك مِن الصَّالحين} [آل عمران: 113-114]. وهكذا كما أننا نرفض كثيرًا من الأعمال المنسوبة إلى الإسلام، ونقول إنها "لا تمثل الإسلام"، فكم بالحريّ بنا أن نعطي لغيرنا "حق الرفض"، عندما يتعلق الأمر باقتراف أخطاء تُنسب إلى أتباع مذاهبهم، واتجاهاتهم الدينية والفكرية.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.