ترتسم صورة الجنة في أذهان كثير من الناس، باعتبارها مكانًا للملذَّات والرَّغَبات والمُتع الحسِّيّة، المتمثِّلة بِـ: الحُور العِين، والوِلْدان المُخلَّدِين، وأنهار الخمر والعسل واللَّبن، والقصور، والثمار، والثياب الفاخرة، وقوارير الذهب والفضة... إلخ. ولا تتوقف المشكلة على استغلال بعض مَن لا يعرفون الإسلام لهذه الصورة السطحية، في اتِّهامهم الإسلامَ باعتباره دين رغبات وشهوات؛ وإنما تتعدَّى ذلك إلى طرح تساؤلات حول بُنْية ذلك الفكر الديني، الذي يسعى إلى استبدال رغبات مؤقَّتة محدودة، برغبات دائمة غير محدودة، على اعتبار تحويل تلك الرغبات الحسِّيّة إلى غاية دينية، ومَقصد وُجوديّ.
تختلف دوافع الناس في تديُّنهم. فمنهم مَن تحرِّكه الرغبة في العطايا الإلهية، ومنهم مَن تحرِّكه الرَّهبة من الموت والكوارث، ومنهم مَن يَعبد الله شكرًا ومحبّة. وهذا يعني أن دوافع التديُّن تتراوح بين الرغبة فيما عند الله، والرغبة في الله. وهنا لا بد أن نفهم العلاقة بين الرغبة والمعرفة لدى الانسان. فالمعرفة تبدأ عند الطفل بالرغبة الحسِّيّة في تذوُّق الأشياء التي تُحيط به، ثم ترتقي شيئًا فشيئًا لتَشمل استعمال الحواسِّ الأخرى، ثم تَبلغ أوْجَها في الرغبة العقلية والروحية.
الانتقال من المعنى الحسّي إلى المعنى الروحي، يمثِّل سمةً عامة لتَطوُّر الفكر الديني. ولذلك، كان التعبير عن مُتع الجنة بلُغَة حسّية، وسيلةً تُقرِّب المعنى الغائب إلى ثقافة المتلقِّي ووُسْعه المحدود. وهنا، نَفهم قول ابن عباس: "ليس في الجنَّة شيءٌ ممَّا في الدُّنيا إلَّا الأسماء" (رواه البيْهقي). وهو ينسجم مع الحديث القُدسيّ الذي يقول: "أعددتُ لعبادي الصَّالحينَ ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، ذُخرًا، بَلْهَ [دَعُوا] ما أُطلِعتُم عليه، ثمَّ قرأ {فلا تعلمُ نفسٌ ما أُخفيَ لهم من قرَّة أعينٍ جزاءً بمَا كانُوا يعملون}" (رواه البخاري).
مِن أعظم صُوَر النعيم الروحي التي يشير إليها القرآن، رؤية الله في الجنة، كما في قوله: {وجوهٌ يومئذٍ نَاضِرةٌ، إِلَى ربِّها ناظرة} [القيامة: 22- 23]. وتُشير آية أخرى إلى أن رِضْوان الله أكبرُ مِن كلِّ أشكال النعيم الحسّية: {وعدَ اللَّهُ المُؤمِنينَ والمؤمناتِ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأَنهارُ خالدين فيها ومساكن طيّبةً في جنَّات عدنٍ ورضوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكبرُ ذَٰلكَ هوَ الفَوزُ العظِيمُ} [التوبة: 72].
وفي إطار النصوص المسيحية واليهودية، نجد هناك تشابُهًا كبيرًا فيها مع نظرة القرآن الكريم، حول أشكال النعيم الأُخْروي بشِقَّيه المادي والروحي. ففي النصوص المسيحية، يشير المسيح عليه السلام إلى المُتع الحسية في ملكوت الله، في قوله: "وأنا أجعَلُ لكم كما جعَل لي أبي مَلَكُوتًا، لتَأكُلوا وتَشرَبُوا على مائدَتِي في مَلَكُوتي" (لوقا 22: 29-30). وعن المُتع الروحية، يُبشِّر المسيح أتباعه برؤية الأنبياء في ملكوت السماء: "وأقولُ لكم: إنَّ كثيرِينَ سيَأتُون من المَشارق والمَغارب ويتَّكِئُون معَ إبراهيمَ وإِسْحاق ويعقوب في مَلَكُوت السَّماوات" (متَّى 8: 11).
أمَّا في السياق اليهودي، فيتحدَّث التَّلمود بالنعيم الحسّي لأهل الجنة، حيث يتجدَّد فيها شبابهم، ولهم فيها أزواج وأموال ومنازل، وطعامُهم لحم الأوز والثمار والأعناب. وممَّا جاء في التَّلمود: "قضاء ساعة في نعيم الجِنان في العالم الآخر، خيرٌ من قضاء العمر كلِّه في هذا العالم" (التَّلمود البابلي، نزيقين). وعن المُتع الروحية، يشير سِفر أيوب إلى رؤية الله في الآخرة، في قوله: "أَعلَمُ أن إلهى حيٌّ، وأنِّي سأقوم فى اليوم الأخير بجسدى، وسأرى بعينِي اللهَ مُخلِّصي" (أيوب 19: 25 -27). ويؤكِّد التَّلمود الذي يمثِّل المصدر الثاني في الديانة اليهودية، أنَّ أعظم أنواع النعيم الروحي هو التمتع بمشاهدة بَهاء الحضرة الإلهية: "في العالم القادم لا يوجد أكل أو شرب أو إنجاب، ولكنَّ الصادقين يجلسون مع التيجان على رؤوسهم، ويشاهِدوا بهاء الوجود الإلهي" (التَّلمود البابلي، نشيم).
تُمثِّل الجنة في مضمونها الأعمق، أجمل صورة للإبداع الإلهي، إلى جانب كَونها المكان الأمثل للسعادة البشرية، حيث يزول الألم، والمرض، والهَرَم، والموت، والخطيئة. ويبقى إيمان الإنسان بالجنة، يَعكس عُمق الحاجة الإنسانية إلى السعادة والسلام والطُّمَأنينة، وبَحْثَ البشرية الدَّؤُوب عن أُنموذج أمثل، لبناء مجتمع الرحمة والسلام، الذي يَطمح إليه الأحرار والأبرار.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.