أظهَر استطلاعُ رأيٍ للشباب اللبناني الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة -أجراه أخيرًا مركز رشاد للحَوكمة الثقافية في مؤسسة أديان-، ضُعفَ الثقافة السياسية لديهم بشكل لافت. والمعلوم أنّ هذه الفئة من المواطنين/ات تكُون نسبيًّا أكثر عِلمًا، مقارَنةً بالفئة الصُّغرى أو الكُبرى عُمرًا، إذ 22% منهم فقط قد اطَّلعوا على نصِّ الدُّستور اللبناني. وعندما سُئلوا مثلًا، عن معرفتهم لِبلد نجَحَ في اعتماد التعددية في نظامه السياسي، ويمْكن أخْذُه نموذجًا في هذا المجال، أجاب 79% منهم بالنفي، وجاءت إجابات 21% مِن الذين سَمَّوا دولًا عَدُّوها نموذجيةً في هذا المجال، غيْرَ دقيقة في مُجمَلها.
اللّافِت أيضًا، أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تَحتلُّ المرتبة الأولى، بين مَصادر المعلومات السياسية لدى هؤلاء الشباب بنسبة 63%، تَلِيها شاشات التلفزة بنسبة 56%، ثم الأشخاص المَوثوق بهم مِن قِبَل أولئك الشباب بنسبة 49%. أمَّا الصحف، فحازت أقلَّ من 1% (0.2% فقط). المُقْلِق في هذه البيانات، أنّ المَصادر الرئيسة للمعلومات لدى الشباب، غالبًا ما تَلعب دورَ تأكيد القناعات، بدل مساءَلتِها أو توسيع مساحة المعرفة المرتبطة بها.
نجد في أغلب الدراسات حول استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، أنَّ مستعمليها يستقبِلُون معلومات خاطئة أو غيْر دقيقة "fake news" بنسبة تتعدّى 50%، مع الأخذ بالاعتبار أنَّ رُوّاد وسائل التواصل الاجتماعي، يعتمدون بالإجمال على صفحات ومواقع تُشْبههم من ناحية القناعات الإيديولوجية. هذا الموقف يتشابه مع اعتماد الشباب على أشخاص مَوثوق بهم مِن قِبَلهم، كمَصادر للمعلومات. والثقة هنا، غالبًا ما تكُون مرتبطة بالعاطفة، أكثر منها بالعقل، أيْ تكُون هذه المَصادر -كما وسائل التواصل الاجتماعي- في مُجمَلها لتأمين الدعم للقناعات، والبقاء في المنطقة الفكرية المريحة "comfort zone"، دون التعرّض لِلشَّكِّ العلمي والنقاش المثمر. والمؤسف أنْ نرى نوعيّة غالبية البرامج التلفزيونية السياسية، والتي هي أكثرُ مشاهدةً، كيف تحوّلت إلى استعراضات شَعبويّة تزيد من استقطاب الناس، ولا تُضيف إلى ما لدَيهِم من الحقائق والمعلومات السياسية إلَّا القليل.
في زمن حلّ فيه برنامج "التُّوك شو" التلفزيوني، مكان "الأغورا" (حيث كان يلتقي المواطنون في اليونان القديمة، لِيتناقشوا في أفكارهم المختلفة، ويتحقَّقوا من صحّتها، ويأخذوا القرارات المشتركة وهُمْ على بَيِّنة من وقائعها ومُوجِباتها)؛ أصبحَت الاستقطابات الشَّعبويّة، والمزايدات الفئوية والطائفية والراديكالية العبَثيّة، تُشكّل الدوافع الرئيسة إلى اتِّخاذ المَواقف من السياسة والمصلحة العامة. وأيضًا في زمن الانتفاضات والثَّورات الشَّعبية -كالذي يعيشه لبنان حاليًّا-، نجد أنَّ الناس في مُجمَلهم أصبحوا واعِين بأزماتهم السياسية، التي تُؤثِّر بشكل سلبيٍّ كبير في مَصالحهم وحياتهم اليومية -حتى وإنْ جاء هذا الوعي متأخِّرًا-، ولكنهم يفتقرون إلى التلاقي على البدائل، التي يمْكن أن تُشكِّل الحلول المنشودة لإنقاذ الوضع، وتغيير الواقع السلبي الذي يثورون عليه.
إنَّ السعي إلى التغيير السياسي يتحوّل إلى وَهْم، إنْ لم يقترن بنسبة عالية لدى المواطنين/ات "الثُّوَّار"، من الوعي بمفاهيم المواطَنة والديمقراطية وقواعد الحياة العامة المشتركة. وليس المطلوب أن يجري الاتفاق على خيار واحد بديل، يكُون هو المنشود مِن قِبل جميع "الثُّوَّار"، حسب ما يطالبهم به بعضُهم عن حَمِيّة غير منطقيّة، أو بهدف إظهار تَشتُّتِهم وضرب مصداقيتهم؛ بل المطلوب وعْيٌ عامٌّ بالإشكاليات المطروحة، ولُغةٌ مشتركة لمقاربتها بالمنطق والواقعية، لتأمين الدعم المستمرِّ والنجاح لها.
يُخطئ مَن يعتقد أنَّ الغضب الشعبي والثوري، يمْكنه أنْ يُنتِج التغيير السياسيَّ المطلوب، لإنقاذ أيِّ وطن من أزماته؛ إذ إنَّ هذا الغضب، إنْ لم يترافق مع وعْيٍ سياسيّ وخطاب منطقي وإستراتيجيات واقعية مدروسة، فهو يؤدِّي حتمًا إلى الفشل، أو إلى استبدال منظومة مأزومة بأخرى شبيهة لها أو أسْوَأ منها، مع ما يترافق ذلك من خراب وخسائر جسيمة.
التغيير الحقيقي يحتاج إلى رأيٍ عامٍّ، يتمتع بالوعي المُواطَنِيِّ، والرؤية الحكيمة، والخطابات السياسية المنطقية البعيدة عن الفئوية والراديكالية والشعبوية. والسؤال: "كيف يمْكن الوصول إلى ذلك، في مجتمَع أظهَر نظامُه التربوي فشلَه على مستوى التثقيف السياسي، ويعيش مُجمَل شبابه حالاتٍ من الاستقطاب التبعي؟". على المدى البعيد، يَكمن الحلّ في وضع نظام تربوي، تكُون فيه الثقافة السياسية والنقاش الفلسفي والحوار الاجتماعي أساسًا. أمَّا على المدى القريب، فعلى قيادات الرأي العامِّ بين المجموعات الشبابية والثورية، أنْ تتجرَّأ على صناعة خطاب سياسي بديل، مُدعَم بشروحات تُظهر للرأي العامِّ البُعدَ العقلانيَّ لهذه الطروحات، وأنْ تسعى لِمَلْءِ الفراغ الفكري عبْر الوسائل المتاحة في الإعلام والمجال العامّ.
التغيير الحقيقي، هو معركة لا يفوز بها مَن اكتسب الأرض وقد سَيَّجها بجدران وأسلاك شائكة، بل مَن يكتسب الرأي العامَّ وهو يُحرّره من جدران الانغلاق وأسلاك الجهل، ويأخذه إلى مساحات الوعي والالتزام الوطني.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.