اِكتَمل الشهر الكريم منذ أكثر من شهر، ولم يَنتهِ الجدل -كما في كلِّ سنة- حول الإفطار العلنيِّ، وحرِّيّة المعتقَد في رمضان. ففي الوقت الذي ينادي فيه بعضُهم بتجريم هذه الممارسة، ومُعاقبة بعض الشباب المفطرين/ات، بِتَعِلَّة "الاعتداء على الأخلاق الحميدة" تارة، و"التَّجاهُر بالفُحْش" تارة أخرى؛ تُطالِب جمعيّاتٌ حقوقية باحترام دستور البلاد، وبحماية الحقوق الفردية، وبتكريس حرية الضمير قَولًا وفعلًا.
طبْعًا، عندما نناقش مسألة ملاحَقة المفطرين/ات في رمضان، فنحن لا نَحطُّ من قيمة شعيرة الصوم، ولا من أهميتها وقُدْسيتها في جميع الأديان، بل نحن نناقش كيفية إدارة التعدد والاختلاف، وضَوابط تنظيم الفضاء العامّ في بلداننا. والهدف من تناول هذا الموضوع، هو تَجاوُز التوتُّرات القائمة منذ قرون في مجتمعاتنا، بين الفرد والمجموعة، وبين الدِّين والدولة؛ ومحاولةُ الفصل والتمييز بين الفضاء العامّ والفضاء الخاصّ، وبين الدِّيني والسياسي، وبين المُواطَنة والإيمان.
علينا أن نُقرَّ بصعوبة تجذير مفهوم حرية الضمير، وتأصيل الحقِّ في الحرِّيّة المسؤولة، أيِ التي تعترف بحُرّيَّة الآخر كخطٍّ أحمر في بلداننا. فنحن لا نزال نعتقد في مِخْيالنا الجمْعيّ وفي لاوَعْينا الثقافي، أن التدخل في حياة الآخرين والتَّلَصُّص عليهم والوشاية بهم، هو واجب ديني يُثاب عليه المؤْمن(ة)؛ لأنه يندرج في باب "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكر". لذا، علينا توضيح بعض المفاهيم:
1- يرتكز الإسلام على مبدأ الحرية. وتُعتبر الآيةُ الكريمة {لا إكْراهَ في الدِّين}، المَدخل الأساسي إلى بناء علاقة سليمة وصحِّيّة مع الإيمان والاعتقاد. فالإيمان في الأصل، هو إيمانٌ فرديٌّ مسؤول ووَاعٍ، ولا يَقْبل في السياق الإيمانَ بالوراثة أو بالتقليد أو بالإكراه والقهر. وعلى هذا الأساس، تُعتبر مسؤوليةُ الفرد (الذَّكر أو الأنثى) عن أعماله(ها) وسلوكياته(ها)، قضيَّةً مِحوَريّة في مسألة خلافة الإنسان في الأرض، وأيضًا هي ركيزة أساسية في منظومة الثواب والعقاب الإسلامية. فالإسلام يَمنح مِساحة مقدَّسة، يمتلك فيها الفرد (الذَّكر أو الأنثى) حقَّه(ها) المشروع في نحت كيانه(ها)، وَفْق إرادته(ها) الحرّة.
2- إن الانخراط في مسار الديمقراطية المنشودة، يترتَّب عليه مجموعةٌ من الالتزامات الأخلاقية والقانونية. فالديمقراطية لا يمكن اختزالها في مبدأ حُكم الأغلبية، أو في عملية إجرائيّة وتِقْنِيّة هي الاقتراع العامّ؛ إذ تقُوم الديمقراطية أساسًا على ثقافة تحرُّريّة شاملة، وعلى مجموعة من القيم، مِثل: حقوق الأقلِّيّة، وقبول وُجود الآخر المختلف، وحرية المعتقد. وفي هذا الإطار، لا يمكن للأكثرية أن تستعمل نفوذها لانتهاك حريات المواطنين/ات، ولا أن تَسنَّ قوانين تُصادِر من خلالها حقوق الأقلِّيّات. فالديمقراطية وحقوق الإنسان، وجهان متلازمان، كوجه الورقة والجهة المقابلة لها. بل إن تكريس هذه الحقوق، هو الذي يمنح الديمقراطية شرعيَّتها النهائية، ويحمي في نفس الوقت إرادة الشعب، من الانزلاق في طغيان الأغلبية. فالديمقراطية تَستبطن خطوطًا حُمْرًا، هي حقوق الإنسان اللّامشروطة، التي تَضْمن التماسك الداخلي بين السيادة الشعبية والحريات الفردية، وتَضْمن اللّاعودة إلى التُّوتاليتاريّة (الأنظمة الشموليّة) البغيضة، وإلى محاكم التفتيش الغابرة.
3- نعيش اليوم ظاهرة التدفُّق الديني، وتعدُّدية القيم التي تَتراوح بين المدنية والدينية. فتَمَظْهُرات الهُويّة أصبحت تحتلُّ المَشهد العامّ، وتَفرض نفسها في الفضاء العمومي، في تَحدٍّ صارخ لقوانين الدولة المدنية وتشريعاتها، حتى في الغرب. بيْدَ أن هذه الظاهرة، يجب ألّا تتحول إلى حرب دينية باردة، تُهدِّد النسيج الاجتماعي. لذلك، نحن نحتاج إلى بِيداغوجيا (عِلْم التربية) للعيش المشترك. وفي هذا الإطار، يدعو الفيلسوف النقدي هابرماس في كتابه "تحدِّيَات الديمقراطية ما بين المذهب الطبيعي والدين"، إلى بذل مجهود مزدوج من التنازلات، وإلى عملية تدريب، تُلْزِم في نفس الوقت كُلًّا من حركات التنوير والعلمنة والمذاهب الدينية على حدٍّ سَواء، التفكيرَ ضِمْن حدودها الخاصة، وصياغة أخلاقيات جديدة تتضمن القيم الروحية الخالدة، وتَخضع في نفس الوقت لسلطة القانون. وهذه البيداغوجيا، هي التي سوف تمكِّننا من إرساء الديمقراطية التشاركية المنفتحة على الجميع، والقائمة على الاختلاف والتنوع، والاعتراف بالآخر المُغاير.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.