اِحتضنَت مدينة الرّباط منذ أسبوعَين لقاءً فكريًّا، من أجل تقييم زيارة البابا فرنسيس لبعض الدُّول الإسلاميَّة، ولتحليل مختلف الوثائق والخطابات الرَّسميَّة وغير الرَّسميَّة، المرتبطة بما يمكن اعتباره ديناميّةً جديدة في العلاقات بين الإسلام والمسيحيَّة، وأيضًا لِلحوار بين مؤمني/ات الدِّيانتَين.
قمتُ شخصيًّا -في دراسة عرَضتُها في هذا اللِّقاء- بتحليل رُدود الرَّأي العامِّ على زيارة البابا إلى كلٍ من الإمارات والمغرب، وإذ بها تُظهر أحيانًا نزعةً تشكيكيَّة في مصداقيَّة الحوار، أو قدرتِه على تجاوز الطَّابع الشَّكليّ والمجاملات الدِّبلوماسيَّة. لكنِّي أعتقد أنَّ أكثرَ الانتقادات عمقًا من جانب المسلمين كما المسيحيِّين، هي الَّتي ربطَت قدرة الأديان أو المؤسَّسات الدِّينيَّة على الدُّخول في حوار حقيقيّ، باستعدادها لِلاعتراف بقيمة الحرِّيَّة الدِّينيَّة -ممارَسةً وتفكيرًا-، كمَدخل إلى قيمة الغيريَّة، الَّتي تَعني القدرة الدَّائمة على توسيع دائرة الكرامة البشريَّة، وجعْل قيمة الرَّحمة في مَركز علاقتنا بالآخر.
يمكن أن ننطلق من فكرة عامَّة، مُفادها أنَّه لا يمكنني أن أتحاور مع الآخر، إنْ لم يكُن يعترف بحرِّيَّتي في أن تكون لي خِياراتي الدِّينيَّة أو غير الدِّينيَّة. لكنَّ السُّؤال المَطروح علينا نحن المسلمين، في سياق الحوار الإسلاميِّ-المسيحي، هو: كيف نعترف بحرِّيَّة الآخرين، إنْ لم تكن الحرِّيَّة الدِّينيَّة جزءًا من المَنظومة القِيميَّة الفقهيَّة؟
الكثير من المفكِّرين ورجال الدِّين المسيحيِّين، وقِلَّة من المسلمين، يؤكِّدون أنَّ الاعتراف بحرِّيَّة الضَّمير (ويَدخل فيها حرّيّة تغيير العقيدة الدِّينيَّة أو رفض كلِّ العقائد الدِّينيّة)، هو الشَّرط الأوَّلي والأخلاقيّ والحضاريّ، لحوار حقيقيّ بين المسلمين والمسيحيِّين. لكنَّ الكثير من المَرجِعيَّات الإسلاميّة تَعتبر الأمر "مُساوَمةً" واستخدامًا للحوار، من أجل حمل الطَّرَف المسلم على تقديم تنازلات دينيَّة "جوهريَّة". من هنا، ينشأ الشَّكُّ في إمكانيَّة بناء حوار دينيّ حقيقيّ، عندما يعتنق أطرافُه -ليس فقط- تصوُّراتٍ لاهوتيّةً مختلفة، بل أيضًا تصوُّرات متناقضة لمجال الحرِّيَّة الدِّينيَّة، الَّذي يمكن ويحقُّ للإنسان أن يتحرَّك في داخله.
أكَّدَت الوثائق الَّتي تَوافقَت عليها الكنيسة الكاثوليكيَّة والمؤسَّسات الدِّينيَّة الإسلاميَّة، قُدسيَّةَ الكرامة الإنسانيَّة والحقوقَ المرتبطة بها، وأيضًا المساواة في الكرامة. لهذا، تَكلَّم البابا فرنسيس عن "العائلة البشريّة وشجاعة الاختلاف"، وأبْرَزَ مركزيَّةَ قيمة الحرِّيّة -عبادةً وضميرًا-، وأنَّ الاعتراف بها لكلِّ البشر ميثاقٌ مشترَك بين الأديان، الَّتي تَرفض أن تقوم "المؤسَّسات البشريَّة" بالوصاية على هذه النِّعمة، الَّتي منحها الله للبشر.
نتساءل هنا: هل تُجسِّد منظومتُنا ومؤسَّساتنا الفقهيَّة الإسلاميَّة هذه القيم، لِكي نسعى لتَقاسُمها مع مؤمني الأديان الأخرى؟ وهل يمكنها أن تتحمَّل المسؤوليَّة المعرفيَّة والدِّينيَّة لمِثل هذه الوثائق "الحِوارية"، والحالُ أنَّ الكثير من "نَواقض الحرِّيّة" لا تزال تُشكِّل جزءًا من فكرنا الدِّينيّ، وأنَّ الكثير من الأقلِّيّات الدِّينيَّة في بُلداننا لا تزال تَخضع للتَّمييز والتَّضييق على الحرِّيَّات الدِّينيَّة؟ وكيف يمكننا أن نتحاور مع الآخرين، إن لم نكن قادرين على التَّحاور فيما بيننا؟
أعتقد أنَّ المواثيق الحواريَّة الَّتي انخرطت فيها الدُّول والمؤسَّسات الدِّينيّة الإسلاميّة، قد تكُون منطلَقًا لتجديد النِّقاش داخل الإسلام حول قدسيَّة الحرِّيَّات، الَّتي يجب أن تُترجَم عمليًّا إلى اعتراف تاريخيّ، برفع وصاية الدَّولة عن الحرِّيَّات الدِّينيَّة وبِناء لاهوت التَّعدُّد الدِّينيّ، حيث لا يكُون الآخر "غيْرُ الدِّينيِّ" مجرَّدَ كافر، بل إنسانًا مكرَّمًا. أيضًا لا بدَّ أن نفكِّك عقيدة الولاء والبراء؛ وإلَّا فكيف يمكنني أن أتحاور مع شخص، يُفترَض فِيَّ ألَّا أكُنَّ له إلَّا البُغض؟
لا شكَّ أنَّه لا يمكن للأديان أن تنفتح على بعضها بعضًا، إنْ هي لم تَتحرَّر، ولم تُحرِّر قيمة الحرِّيَّة داخلَها. فيجب على المؤمنين أن يَهدموا الأسوار والسُّجون داخل أديانهم، قبل أن يسْعَوا لهدم الأسوار الَّتي تفصل بين هذه الأديان، وأنْ يَشرعوا في بناء جسور الاحترام والاعتراف. فنَصِل إلى فكرة مهمَّة، مُفادها أنَّ أهمِّيَّة الحوار بين الأديان تَكمن في قدرته على تحرير أدياننا من انغلاقاتها الدَّاخليَّة، لكي نكُون قادرين حقًّا على أن نجتمع على "كلمةٍ سَواء"، حسب ما يعلِّمنا إيّاه ذلك القرآن.
تبدو هذه الوثائق جِدَّ متقدِّمة، مقارَنةً بممارَساتنا الفكريَّة والدِّينيَّة في العالم الإسلاميّ، لكنَّها تَدفعنا إلى المزيد من الأمل. ونحن واعون أنَّ الحوار الحقيقيّ بين الأديان، هو الحوار الَّذي يغيِّر قلوب المؤمنين/ات، ويَجعلها أكثر رحمةً ورحابة. ليس هذا الحوار مجرَّد سياحة فكريَّة أو دينيّة، بل مسؤوليَّة أخلاقيَّة "مُكلّفة"، تَفرِض علينا الاعتراف بالاختلاف كمشروعٍ إلهيٍّ، وبقيمة الحرِّيّة كتجسيدٍ بشَريٍّ لهذا المشروع. والله أعلم
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.