قد تُعرَّف الحرّيّة بأنّها التحرّر من القيود، التي تُكبِّل الإنسان وتمنعه من ممارسة حياته كما يريد، بما لا يتعارض مع حرّيّات الآخرين. وقد يتغنَّى الفرد العربي بالحرّية ويطالب بها، وبعضُهم على استعداد للموت في سبيلها، وأيضًا دساتير الدول العربيّة بأغلبها تنصُّ على أنّ الحرّيّة مكفولة بالقانون. ولكنّ الأمر على الأرض لا يبدو ورديًّا، لا على صعيد المجتمع ولا على صعيد الأفراد.
لا تبدو الحرّيّة مفهومة في عالمنا العربيّ. فكِتاب الحرّيّة لم يقرأْه بالكامل إلّا القليل من الناس. بعضُهم يقرأ المقدّمةَ، أو ذاك الجزءَ الذي يهمّه (أو يرى فيه مصلحته)، ثم يَخرج مطالبًا بالحرّيّة، في حين أنه لو قرأ الأجزاء الأخرى لم يوافِق عليها. فتجد الرّجُل مثلًا يطالب بحرّيّته في التعبير، في حين يعُود ليَقْمع زوجته، ويَنْهر ابنه إنْ تساءل عن أمر معيّن. وتجد آخر يتغنّى بالحرّيّة، وفي الوقت ذاته يمنع نفسه عن حرّيّة التفكير، ويضع عقله في سجن من الممنوعات.
وأيضًا تجد من يريد حقّه في ممارسة شعائره، لكنّه لا يؤمن بحقِّ الآخر المختلف عنه في الدّين أو الفكر، تجده يتطاول على الآخر بالتكفير لمجرّد اختلاف الرأي. أمّا المضحك المبكي، فذاك الطائفيّ أو العنصريّ الذي يطالب بالحرّيّة، في حين الطائفيّةُ في حدّ ذاتها عبوديّة، وازدواجيّةُ معايير لا يمكن معها أن نكُون أحرارًا. فأغلبنا يَقْبل لنفسه ما لا يَقْبله للآخر، ويعطي نفسَه حقوقًا، ويُحرّمها على الآخر.
أمّا عن حرّيّة الصحافة والكتابة في العالم العربيّ اليوم، فهي في أسوأ حالاتها. فالكاتب إمّا أن يقرّر اليوم أن يتوقّف عن الكتابة؛ لرفضه التخلّي عن حرّيّته في التعبير، أو تَجِده يحاول إيصال ما يريد بصورة غير مباشرة على حساب الفكرة، وإمّا -وهذا أسوأ- أنْ ينافق ويتملّق. وفي كلّ الحالات، الصحافة هي الخاسرة، خصوصًا مع تصاعُد أَنْجُم وسائل الاتّصال الاجتماعيّ، حيث أصبح كلّ شخص يملك هاتفًا "صحفيًّا"، يُعبّر به بحرّيّة أكبر؛ لأنّه ليس مُجبَرًا على محاباة أحد، وليس لديه حسابات الكاتب، ولا يهمّه رِضا مؤسّسة صحفيّة معيّنة.
إنّ سياسة التملّق والنفاق والحذر، غيرُ مقصودٍ بها أن تكُون فقط تجاه الدولة أو المسؤول أو المؤسّسة الصحفيّة، ولا ينطبق الأمر على الكاتب السياسيّ فحسب، بل هناك التملّق للمجتمع، والخوف من رُدود فعله عند مناقشة قضايا معيّنة. فتجد الكاتب مثلًا يبتعد عن كلّ ما قد يثير المجتمع عليه، مع العلم أنّ هناك قضايا مجتمعيّةً كثيرة لا تحتمل التأجيل. ومِن الكُتّاب مَن يحاول التملّق للمجتمع؛ تجنُّبًا لمعاداته، وللحفاظ على القبول في مجتمعات لا تتقبّل الاختلاف، وتهاجم أيّ فكرة جديدة، بل وتضعها في خانة المؤامرة قبل أن تُثبت إدانتها.
وعليه، فإنّ التحرّر من القيود ليس سهلًا، خصوصًا وأنّ الكثير يَسجن نفسه بنفسه من أجل الاندماج في المجتمع. وأكبر مثال على ذلك قرارات الفرد الشخصيّة، التي يتّخذها إرضاءً للمجتمع والأهل، فيَدفن أحلامه بيديه، ويقرِّر أن يعيش كما يريد الآخرون، ويتحول مع الزمن إلى كائن آخر لا يشبهه، وقد يصل الأمر به إلى كراهية نفسه، ومجتمعِه، الذي فَرض عليه ما لا يطيق.
الحرّيّة كما يجب أن تكُون ليست أمرًا مستحيلًا، ولكنّها تحتاج إلى عقول واعية مستنيرة، وصلَت إلى مرحلة من الاستقلاليّة الفكريّة بالتأمّل والتفكّر والقراءة، بحيث تُميّز الخطأ من الصواب. الحرّيّة لا تُقدَّم على طبق من ذهب، بل نحصل عليها من داخلنا أوّلًا، عن طريق إيمان الفرد المطلق بحقِّه في حرّيّة التفكير والاختيار، ورغبته في التحرّر من القيود المفروضة على عقله، ورفضِه بأن يكون تابعًا لغيره.
من الضروري أن نبدأ كمجتمع راغب في التحرر، بتطبيق مبادئ الحرية على الجيل الجديد، حتّى لا نستمرّ في نفس الدائرة. طريقة التربية يجب أنْ تُراعيَ بناء شخصيّات مستقلّة، خصوصًا وأن تعبئة الأدمغة بالمعلومات الجاهزة، كانت هي المعضلة التي واجهتنا في معركتنا مع أنفسنا؛ ما يستدعي تدارُك الأمر مع الأجيال الجديدة. فالعقل المَحْشُوُّ بالإجابات الجاهزة لا يُبدع. ثم إنه من الضروري أن نعي أن الحرّيّة المطلَقة غير موجودة. فالحرّيّة لها ضوابط في كلّ المجتمعات، يضعها القانون، ويجب ألّا ننسى أن أسوأ الحرّيّات، تلك التي يساء استعمالها، وتلك التي تأتي مفروضة من الخارج.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.