اِتَّخذَت الرحمة فضاءً واسعًا في القرآن الكريم، لم تتَّخِذْه في الكتاب المقدّس وغيرِه من نصوص الأديان، إذ وردت بصيغ متنوِّعة فيه، تصرّح بشمولها لكل شَيْءٍ وعدم خروج أي شيءٍ عنها، وهو ما تحدَّثتْ به آيات متعدِّدة، مثل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، {كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ}، {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أن اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا أنهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
وينفرد القرآنُ بأن سُوَرَه تبدأ بــ"البسملة"، الَّتي تُحتسبُ آيةً من كلِّ سورة، حسبما ذهبَ إليه جماعةٌ من المفسِّرين والفقهاء. وتشتملُ البسملةُ على صياغةٍ مكثّفةٍ لبيانِ مفهومِ الرحمة واتِّساعِها، لتشكّل شبكةَ نسيجٍ دلاليٍّ تتَّسع لتغطِّي كلَّ ما ورد في القرآن.
وجدتُ كلمةَ "الرحمة" وردت في 268 موضعًا في القرآن، وتكرَّرت "الرحمة" ومشتقَّاتُها في أكثر من 330 مرَّة، ما خلا ما ورد من تكرار البسملة في السُّوَر 114 مرَّة. وبناء على قول بعض المفسِّرين بأن البسملةَ آيةٌ من كلِّ سورة، ووُرود "الرَّحمن الرَّحيم" في كلِّ بسملة، فإن عددَ مرَّات ذكر الرحمة ومشتقَّاتها في القرآن يفوق 550 مرَّة. وبذلك، يتميَّز القرآنُ عن كتب الأديان السماويَّة بِسَعَة مساحة حضور الرحمة فيه. ويصف القرآنُ الكريم النبي محمَّدًا بأنه رحمة، وذكر بصراحة أن هذه الرحمة عامَّة، لاتختصّ بفرقة أو جماعة، وأنما هي شاملة لكلِّ العالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. فهو رحمةٌ لكلِّ العالمين وليس للمسلمين فقط، أو لفرقةٍ أو مذهبٍ خاصٍّ منهم، كما يظنُّ لاهوتُ الفرقة النَّاجية.
إن الحضورَ الواسع للرحمة في القرآن ظاهرةٌ تستحقُّ دراسةً دلاليَّةً عميقةً، تستند إلى المكاسب الجديدة في الألسنيَّات والسيميائيَّات والمناهج الجديدة في تفسير النُّصوص. لكنْ مع كلِّ هذا الحضورِ المهيمنِ للرحمة في القرآنِ، تغلّبتْ في تاريخِ الإسلام لغةُ العنف على لغةِ الرحمة، وأهدر كثيرٌ من مفسِّري القرآنِ وفقهاءِ الإسلام كلَّ هذا الرصيدِ المكثّف للرحمة، وصارت فاعليَّةُ دلالةِ آيةِ السَّيف في القرآن، هي أشدَّ أثرًا، وأوسعَ حضورًا، في القول والفعل في الحياة السياسيَّة والثقافيَّة لمجتمعات عالَم الإسلام، وأضحى صوتُ من يدعو إلى الرحمة وما يؤول إليها نشازًا أحيانًا، وربما يُتَّهم بالجبنِ والخوفِ والهوانِ، فيُدان دينيًّا ومجتمعيًّا. كلُّ بيئةِ تَدُيُّنٍ صراطيٍّ، غيرُ صالحةٍ لاستنباتِ الرحمة؛ لأن اللَّاهوتَ والفقهَ الصراطي على الضدِّ من منطقِ الرحمة.
الرحمة أشملُ وأوسعُ من العدالة. العدالة تَنشد التَّوازنَ والمساواةَ والإنصافَ في الحكم، وهي مفهومٌ يَنْبَنِي على القانونِ والحقوقِ والأخلاقِ. أمَّا الرحمة فهي "حالةٌ"، و"الحالةُ" هي ما يتلبَّس به الإنسانُ ويعيشُه بوصفه حقيقيَّةً وُجوديَّةً، كما يعيشُ الحبَّ والإيمان، ويصير مكوِّنًا لماهيَّتِه الشَّخصيَّة.
الرحمة تُنتج ما لا تُنتجه العدالة. فمن الرحمة يُولَد الغفرانُ والعفوُ والعطفُ والرِّفقُ واللِّينُ والشَّفقةُ؛ لذلك يستطيعُ من يمتلك الرحمة تحمُّلَ الأقوالِ والأفعال المؤذية الصَّادرة عن الآخر، كما يستطيعُ العفوَ عنها. الرَّحيمُ يتحمَّلُ ما لا يتحمَّله غيرُهُ، ويعفو عمَّا لا يعفو عنه سواهُ من البشر. وما أجمل تفسير الشَّيخ مُحْيِي الدِّين بن عربيٍّ لمنطقِ الرحمة في القرآن، إذ يكتب في الفصّ الزَّكرِيَّاويِّ من كتابه "فصوص الحكم": "والرحمة على الحقيقةِ نسبةٌ من الرَّاحمِ، وهي الموجبةُ للحكمِ، وهي الرَّاحمةُ. والَّذي أوجدها في المرحومِ ما أوجدها لِيَرحمه بها، وإنما أوجدها لِيَرحم بها من قامت به". بمعنى أن الحقَّ سبحانه إذا رحمَ إنسانًا، أوجدَ فيه الرحمة، أو جعلَ الرحمة تقومُ به، بحيث يصبح قادرًا على أن يرحمَ غيرَه من المخلوقات؛ وبذلك يصبح المرحومُ راحمًا. الحقُّ لا يوجِدُ الرحمة في المرحومِ ليرحمه بها، بل ليُكسبه الصِّفةَ الإلهيَّة الَّتي بها يرحمُ غيرَه.
الكائنُ البشريُّ ليس رحيمًا بالطَّبع، ولعلَّ في ذلك سرَّ تشديدِ القرآن على الرحمة، ووضعِها إطارًا دلاليًّا مرجعيًّا، وبوصلةً تُرشِد لما تشير إليه مدلولاتُ سُوَره وآياته. الرحمة حالةٌ لا يستوعبها الكائنُ البشريُّ، ولا يتَّصفُ بها بِيُسْر، ولا يتمثَّلها بسهولة، بل لا يطيقها أكثرُ النَّاس؛ لأنها شديدةٌ على النَّفس، وطالما عجز الكائنُ البشريُّ عن التَّحقُّق بها، إذ إن نزعاتِ العدوان الَّتي تترسَّب في أعماق الكائن البشريِّ تمنعه من امتلاكها. ثم أن الكائنَ البشريَّ ليس خيِّرًا بالطَّبع، وقلَّما يتخلَّص إنسانٌ في نشأته من آثار العواملِ الَّتي تُكوِّن نواةَ السُّلوك العدوانيِّ في شخصيَّته، ولولا ذلك لكان أغلبُ النَّاس رحماء.
إن ضروراتِ الواقعِ المريرِ الَّذي تَغرق فيه مجتمعاتُ عالَم الإسلام، تفرض عليها إيقاظَ صوتِ الرحمة في القرآن، ووضْعَه في نصابِه الحياتيِّ الَّذي ينبغي أن يحتلَّه في التَّربيةِ والتَّعليمِ والعلاقاتِ الأسريَّةِ والاجتماعيَّة. ويتطلَّب خفضُ تأثير عوامل السُّلوك العدوانيِّ في الإنسان، أن ينشأ في بيئةٍ تربويَّةٍ صحيَّةٍ، وتنمو شخصيَّتُهُ في فضاءِ تربيةٍ أخلاقيَّة صالحة، وحياةٍ روحيَّة أصيلة، وثقافةٍ حيويَّة ديناميكيَّة، كي تترسَّخ في شخصيَّته النَّزَعاتُ الخيريَّة، وتُولَد في روحه بذرةُ المحبَّة وتنمو وتتجذَّر باستمرار، بوصفها طاقةً ملهمةً لأجمل معاني الحياة، ولكلِّ ما يُكرّس الرحمة وما يُولَد منها من قيمِ العفوِ والغفران والشَّفقة على الخلق، وما يحمي الكائنَ البشريَّ من الاغتراب الوجوديِّ.
وكلُّ ذلك لا ينجزه إلّا فهْمٌ بديلٌ للدِّين، وموقفٌ مختلف لنمط الصِّلة بالله، ورؤيةٌ جديدة للعالم، وإرادةٌ جِدِّيَّة في تبنِّي العلوم والمعارف والخبرات الإنسانيَّة الجديدة، وخلاصٌ من الغرام بعلوم الموتى ومعارفهم الَّتي نَسختْ أكثرَها العلومُ والمعارف الحديثة. لكنَّ المؤسف أن أكثرَ ذلك، ما زالت تفتقر إليه مجتمعاتُ عالَم الإسلام.
* هذا المقال يعبّر عن رأي كاتبه ولا يعبّر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.