عادةً ما نتوقَّف عند الصورة، التي تَجمع بين طفل أبيض وآخَر أسود. وتَستَوقفنا أكثرَ، صورةُ طفلة شقراء تُقبّل طفلة سوداء. وبشَغف كبير، نتناقل مِثل هذه الصور مع أصدقائنا، للتعبير عن إعجابنا بالفطرة الإنسانية لدى الأطفال، التي لا تَعرف معنى العنصرية، ولا أشكال التمييز. ثم إنَّ مواقف أخرى تَجمع بين أطفال من ديانات ومذاهب وجنسيات متنوعة، تَلفت انتباهنا، وتشدُّنا أكثر عندما نراهم يلعبون ويمرحون، وأحيانًا يتعاركون كأقران، وليس كمُمثِّلين لعقائدهم وانتماءاتهم وأعراقهم. أيضًا تُبهرنا براءة الأطفال أبناء البرجوازية، وهم يلاعبون أو يعطفون على أبناء البروليتارية، وتستثيرنا نظرات الإعجاب والمودّة، بين طفل في بلده الأصل وطفلة لاجئة.
تُفيد أغلب الدراسات أن العنصرية سلوك مكتسَب، بِعَكس القدرة على التمييز التي تولَد معنا. ومع أن الأبوَين هما مَصدر العنصرية الأول، لا سيّما أن الكلمات التي يسمعها الطفل تُشكِّل بداية وعيهِ وإدراكه، إلَّا أن الأقران والأصدقاء والمدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام، لا يَقلّون أهمية عنهما. وكمَثل بسيط على ذلك، نستحضر تجربة الدُّمْية "بوبو" الشهيرة، التي قام بها عالِم النفس الأميركي "ألبرت باندورا"، لمعرفة مِن أين يستقي الأطفال سلوكياتهم، حيث جرى وضع الدُّمية "بوبو" التي تشبه المهرّج في صالة مغلقة، بحضور طفل مع شخص بالغ. فتَبيّن أنه إنْ تَعامل البالغ مع هذه الدمية بعنف لفظي أو جسدي، فإنه بعد خروجه من الصالة، يتعامل معها الطفل بنفس الطريقة. وإنْ عاملها البالغ بتقدير واحترام، يتعامل معها الطفل بِكلِّ وُدّ ولُطف.
عادةً ما نُعجب بسلوك أطفالنا العَفْويُّ. ومع ذلك، نَغرس فيهم -بوعي وبدون وعي- بذرة العنصرية، التي نمَت وترعْرعَت فينا. ومِثلنا، ستَستَوقفهم حين يَكبرون، صُوَر المحبة ومواقفها لدى أطفالهم. ولكن، ماذا علينا أن نعمل كي لا تَكبر معنا ومعهم مفاهيم مثل العنصرية؟! وكيف نحافظ على استمرارية تصرفاتنا البريئة، وليس الحنين إليها فحسب؟! وكيف نجعل من تربية أجيالنا على العدالة الاجتماعية، تربيةً لأنفسنا أيضًا؟
مع تاريخها الحافل بالممارسات العنصرية ضد "الملوَّنِين"، قضَت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية عام 1967، بقانونية الزواج المختلَط بين ذوي الأصول المختلفة، مثل البِيض والسُّود. جاء ذلك على إثْر فيلم بعنوان "خمِّن مَن سيأتي على العشاء"، الذي ناقش الموضوع نفسه "الزواج المختلَط"؛ ما ساهَم وعزّز فيما بعد، اختيار الشعب الأميركي طواعيةً، أن تكون "ميشيل أوباما" سيّدة البيت الأبيض. وأيضًا لا ننسى أن "إلهان عمر" هي أوّل محجَّبة تَدخل الكونغرس الأميركي، وهي مع رشيدة طليب، أوَّل مُسلمَتَين تَحظيان بمَقعدَين في هذه المؤسسة الدُّستورية. أمّا في المملكة المتحدة البريطانية، فقد أحدث زواج الأمير هاري دوق، بـ"ميغان ماركل"، في العام الماضي، ثورة في المساواة، ودعوة صريحة إلى قبول فكرة الزواج المختلَط وتَبنِّيها.
لن تتغيّر نظرتنا نحو مَن هُم حولنا، إلَّا من خلال التغيير في ثقافاتنا المتوارثة. فعَن طريق فيلم، أو قصة قصيرة، أو رواية، أو قصيدة، أو مسرحية، أو مَوقف خارق للعادة، ستستجيب لنا القوانين، وينعكس ذلك على سلوكنا؛ ما يُفضي إلى مجتمع متعايش، يسُوده العدل والمساواة الاجتماعية.
في لبنان، على سبيل المثال: لا يوجد حتى اليوم قانون موحَّد للأحوال الشخصية. فلكلِّ ديانة أو طائفة فيه، قوانينُها الخاصة ومحاكمها الروحية والشرعية والمذهبية. لكن، يدور حاليًّا نقاش واسع وجادٌّ حول إمكانية تشريع الزواج المدني، وهو ما سينعكس على تعزيز العيش المشترَك وقبول الآخر، بحسب ما يرى الكثير. وفي اليمن، يتزامن نشر هذا المقال مع حملة في مواقع التواصل الاجتماعي، بعنوان "الشغل مش عيب"، تدعو إلى نبذ تصنيف المِهَن بين راقيةٍ وأخرى أقلَّ شأنًا؛ إذْ تَمنح شاغليها نظرةً دونيّة في المجتمع. لكن يا للأسف، كلُّ مَن تَصدّر هذه الحملة أو شارك فيها، لم يُثْبت على أرض الواقع أن الشغل فعلًا "مش عيب"، حيث لا يزال الغالبية أسْرَى لِلعُرف القَبَلي، حتى وإن صرخ الطفل الذي فيهم بالمساواة.
بالنسبة إلى التراث الديني، سواءٌ إسلاميًّا كان أو مسيحيًّا، فإنه يَنبِذ العنصرية، ويدعو إلى المساواة. وكثيرًا ما نتذكر تلك التعاليم التربوية التي تلقَّيناها ونحن صغار، قبل أن يُعيد المجتمع وعاداتُه صياغة أفكارنا. وعلى رَغم التحدِّيات المجتمعية والثقافات السائدة في الشرق، وفي الوطن العربي على وجه الخصوص، نقول كما قال الرِّوائي البرازيلي "باولو كويلو": "الطفل الذي فينا، أيًّا كانت أعمارنا، علينا أن نحافظ عليه حيًّا في داخلنا، مهْما كلّفنا ذلك، لأنه يَبقى الوحيد القادر على الدهشة والحماسة والافتتان".
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.