يتصل معنى العبادة لدى الإنسان بإحساسه العميق، الذي يجمع بين الخوف والرجاء والخضوع والشكر. ويمثل هذا الإحساس حافزًا يتجه من خلاله الإنسان، إلى قوة خفية تملك القدرة على أن تجلب له الأمن والسلام.
ووفق النظرة القرآنية، فإن العبادة التي هي غاية خلق الإنسان، يجب أن تؤدي بالإنسان إلى "التقوى". ومعنى التقوى يتجاوز الشعور بالخوف والحذر من الله، إلى أن يكون الله وقاية الإنسان وحفيظه، فلا يتحرك إلا بما يحبه الله ويرضاه، كما في قول عليٍّ رضي الله عنه: "ما رأيت شيئًا إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه". وقد يبلغ العابد منزلة يتجاوز فيها معاني الخوف والطمع، ليصل إلى محبة المعبود لذاته "اللهمّ إني ما عبدتك حين عبدتك طمعًا في جنتك، ولا خوفًا من نارك، ولكني علمت أنك رب تستحق العبادة فعبدتك".
وعلى الرغم من اختلاف التصورات العَقدِيَّة وأسماء الآلهة على مر التاريخ، فإن اختلاف الأسماء لم يحُل دون أن يشعر العابد بسماع الله لدعائه ورجائه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ} [الإسراء: 110]. فما دام السائل صادقًا، والأسماء التي يدعو بها هي أحسن ما بلغَته معرفته، فإن الله سيكون منه قريبًا، وله مجيبًا.
من أقدم أشكال العبادة التي أشار اليها القرآن "الدعاء"، كما في دعاء آدم لربه عند اقترافه الخطيئة، ثم جاءت "العبادة القربانية" كما في قصة ابْنَيْ آدم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة: 27]. ويؤكد الانتقال من العبادة التأملية إلى العبادة القربانية، أهمية الدور الاجتماعي للطقوس الدينية. وربما يكون الانتقال من العبادة التأملية إلى العبادة القربانية قد استغرق وقتًا طويلًا، إذا فهمنا هنا أن المقصود بـ"ابْنَيْ آدم"، هما ابنان من ذريته.
ومن أشكال العبادة القربانية "القرابين البشرية"، ويشير القرآن إليها في قصة ابتلاء الله لإبراهيم بذبح ابنه. وأما عبادة "القرابين الحيوانية"، فاستمرت في الإسلام في "الهَدْي"، و"الأضحية"، و"العقيقة". لكن القرآن أعطى لهذه العبادة بُعدًا روحيًّا تقَويًّا، كما في قوله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ} [الحج: 37]. فالكثير من الشعوب القديمة، كانت تعتقد أن الآلهة تجتمع لتأكل ما يقدم لها من قرابين، فجاء القرآن ليرتقي بالتصورات العقدية للإنسان، ويجعلها تنسجم ومعنى الكمال الإلهي. لقد شاء الله أن يكون لكل أمة مناسك مختلفة عن غيرها، ولا يحق لأمة من الأمم أن تمنع غيرها من أداء مناسكها، لكونها مخالفة وظاهرَ مناسكها {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} [الحج: 67].
يُعدّ التأمل والتفكر "التحنُّف"، في "ملكوت السماوات والارض"، العبادة الأولى التي قام بها إبراهيم عليه السلام {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 75-76]. ولعل قوله "لا أحب الآفلين"، يشير إلى أن إبراهيم كان يبحث منذ مرحلة مبكرة عن محبوب كامل لا يأفل. وكذلك الحال، كان محمد صلى الله عليه وسلم "يتحنث" الليالي ذوات العدد في غار حراء، بالنظر في "ملكوت النفس".
ولم ينته ذلك "التحنث" مع نزول الوحي على النبي، بل استمر واتخذ أشكالًا متعددة. فقد فُرضت الصلاة قبل الهجرة بسنة ونصف، وهذا يعني أن المسلمين بقوا دون صلاة، بالمعنى الشعائري، ما يقارب أحد عشر عامًا من البعثة، وفُرضت الزكاة والصيام في السنة الثانية للهجرة، أي بعد قرابة أربعة عشر عامًا من البعثة، وفُرض الحج في السنة التاسعة للهجرة. وهذا التباعد الزمني في تقرير العبادات الشعائرية، يؤكد أن فرض العبادات الشعائرية جاء متسقًا والظروف التي مرت بها الدعوة الإسلامية، والاستعداد الروحي للمجتمع المسلم.
فالعبادات في جوهرها العميق، "معلَّلةٌ بمصالح الخلق" كما يقول الشافعي، وهذا يعني أن العبادات إذا لم تنعكس على سلوك الإنسان وتُحقق النفع لخلق الله، فهي لم تبلغ الغاية التي جاءت من أجلها.
* هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي موقع تعددية *
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.