لقد بيَّنَت وفاة الرَّئيس التُّونسيُّ الباجي قائد السّبسي، هشاشة الدَّولة المدنيّة التي نصَّ عليها دُستور البلاد، والمخاطر التي تتهدَّدها. فقد سارع دعاة/داعيات التَّطرُّف والتَّكفير، عبْر الفضائيّات وشبكات التَّواصل الاجتماعيِّ، إلى التَّشفِّي بموته وكَيْل الشَّتائم له، بدعوى أنه "علمانيّ" دعا إلى مدنيَّة الدَّولة وفصْل الدِّين عنها. وتندرج هذه الحملات التَّكفيريَّة، في إطار مبادراته التَّشريعيَّة حول الحرِّيَّات الفرديَّة والمساواة، وخاصَّة دعوته إلى السَّماح للتُّونسيَّة بالزَّواج بغير المسْلم، وإقرار المساواة في الإرث اعتمادًا على مبادئ دستور البلاد وقوانينها.
المعروف عند التُّونسيِّين/ات أنَّ الرَّئيس الرَّاحل كان مؤمنًا، وملتزمًا دينيًّا. بيْد أنَّ هذا لم يشْفع له؛ وذلك راجع إلى الغموض والضَّبابيَّة، الَّتي تحيط بمفهوم العلمانيَّة في أرض الإسلام. ومِن البديهيِّ أن نُقرَّ باختلاف الآراء وتبايُن المواقف والأحكام من مسألة العلمانيَّة، بين مؤيِّدٍ(ة) لها ومحترِز(ة) منها ومُشَيطِن(ة) لها. فما العلمانيَّة؟ وما علاقتها بالتَّديُّن والإيمان؟
تاريخيًّا، يُعرِّف المعجَم الفرنسيُّ "روبير" العلمانيَّة، بأنّها الفصل بين الكنيسة والدَّولة، أيْ بين الدِّينيِّ والدُّنيويّ. فمبدأ العلمانيَّة إذًا هو تأسيس ركائز المجتمع، على أساس العقل والإرادة الحرَّة والمصلحة الجماعيَّة وقيم المواطَنة الحديثة. فهي أساسًا مجموعة من النُّظم والضَّوابط، لإدارة الشَّأن الدِّينيِّ وتقنين العيش المشترك. وتقوم العلمانيَّة على ثلاثة مبادئ أساسيَّة:
- حياد الدَّولة في الشَّأن الدِّينيِّ.
- حياد المَدرسة العموميَّة إزاء كلِّ الأديان.
- احترام حرِّيَّة الضَّمير والمعتقد.
هذا لا يعني إطلاقًا معاداة الدِّين أو محاربته، بل إنَّ الدَّولة العلمانيَّة تقف إزاء الدِّين موقف الحياد الإيجابيِّ. فهي ليست معه، وليست ضدَّه. وهي لا تسعى إلى إلغائه، ولا إلى فرضه على مواطنيها، بل تعتبره شأنًا خاصًّا. لكنّ الدَّولة تَمنع تَغوُّل أيِّ دين أو مذهب، على حساب الأديان أو المذاهب الأخرى. فهي تتدخَّل بحزم للدِّفاع عن الأقلِّيَّات الدِّينيَّة، ومنع الاضطهاد بسبب المعتقد. فالعلمانيَّة إذًا ضروريَّة لتعزيز التَّماسك الاجتماعي، ولتَفادي الصِّراعات الطَّائفيَّة والحروب الدِّينيَّة. والدَّولة العلمانيَّة هي دولة لكلِّ مواطنيها، وتُعاملهم على قدم المساواة، متعاليَةً على خصوصيَّاتهم/هنّ واختلافاتهم/هنّ العِرقيَّة والجنسيَّة والدِّينيَّة، وهُوِيَّاتهم/هنّ الصُّغرى.
هذا ليس غريبًا عن تراثنا الإسلاميِّ؛ إذ يتقارب هذا التَّعريف مع مقولة الإمام محمد عبده: "لا دين في السِّياسة، ولا سياسة في الدِّين".
أيضًا نجد في تاريخنا وفي تراثنا الدِّينيِّ، إرهاصات علمانيَّة ضمنيَّة، ولكنَّها ذات دلالة منذ نشأة الإسلام. فالنَّصُّ التَّأسيسيُّ مثلًا يرفض القهر والإكراه. والإيمان قائم أساسًا على الحرِّيَّة والقناعة الذَّاتيَّة والاطمئنان الرُّوحيِّ. فهو إذًا مسألة شخصيَّة وحميميَّة. وتُطالعنا السُّنَّة النَّبويَّة، بأنَّ النبيَّ (ص) مرَّ ذات يوم على بعض المزارعين وهم يلقِّحون النَّخيل، فقال لهم: "لو تركْتُموها لكان أصْلَح". امتثل الفلَّاحون نصيحتَه، لكنَّ نخيلهم فسدَت، فجاؤوه مُحتجِّين. فكان ردُّه عليهم: "وَيْحَكُم. إنَّما أنا نبيُّكم في أمور دِينكم، أمَّا أمور دُنياكم فأنا وإيَّاكم فيها سَواء".
في غزوة بدر في اليوم الثَّاني من الهجرة، أراد الرَّسول (ص) أن يَنزل بجيشه في موقع اختاره. فسأله الحُبَابُ بن المُنذِر إن كان هذا الاختيار وحْيًا إلهيًّا. فأجابه الرَّسول الكريم أنَّه مجرَّد رأي. عندئذ نصحه هذا الخبير العسكريُّ بتغيير الموقع قائلًا: "يا رسول الله إنَّ هذا ليس بِمَنْزل، فانهض يا رسول الله بالنَّاس حتَّى تأتي أدْنَى ماءٍ من القوم فنَنْزِله، ونغور ما وراءَه من الآبار، ثم نَبنِي عليه حوْضًا فنَمْلَؤُه ماءً، ثم نُقاتِلُ القومَ، فنَشْربُ ولا يَشربون". فأخذ الرَّسول برأيه. وهنا نتبيَّن أنَّ الرَّسول(ص) أقرَّ بكلِّ وضوح بفصل الدِّينيِّ عن الدُّنيويِّ، وفصْل المقدَّس عن المدنَّس. فهو ميَّز بين الدِّين وعلوم الفِلاحة، وميَّز بين الدِّين والإستراتيجيِّة الحربيَّة.
مقالات الرأي المنشورة في تعددية تعبر عن رأي الكاتب/ة، ولا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة.
إعادة نشر أي مقال مشروطة بذكر مصدره "تعددية"، وإيراد رابط المقال.